تذويت الرقمنة: قراءة فلسفية في المفهوم بين "الذات والتقنية"

تذويت الرقمنة: قراءة فلسفية في المفهوم بين "الذات والتقنية"

المؤشر 05-11-2025  

الكاتب: أ.صخر سالم المحاريق

في هذا المقال أقدّم رُؤيتي الفلسفية لمفهوم "تذويت الرقمنة" كمبتكر لهذا المفهوم ومُنظر له، والذي أعتبره خُطوة في إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والتقنية في عصر الثورة الصناعية الخامسة. إنّ "الرقمنة" في جوهرها لم تعد مُجرّد عملية تقنية أو تحوّل بنيوي، بل غدت اليوم مجالًا لتكوين الذات وإعادة تعريفها. ومن ثمّ فإنّ "تذويت الرقمنة" هو مشروع فلسفي قيمي أسعى من خلاله إلى جعل الرقمنة جزءًا من الوعي الإنساني والضمير الجمعي، لا مجرّد أداة خارجية. إنه دعوة جديدة لإعادة الاعتبار للإنسان بوصفه مركز المعنى في عالمٍ آخذٍ في الترقمن والبعد عن الذات إلى الأدوات.

أولاً: في تأصيل الفكرة

حين تأملتُ في التحول الرقمي المتسارع الذي يشهده العالم المعاصر، تبيَّن لي أن معظم الخطابات التقنية تُركّز على البُنى المادية للتحول- من أدواتٍ ومنصّاتٍ وأنظمةٍ- بينما تغيب عنها الإشكالية الأعمق: ما موقع الإنسان في هذا الفضاء الرقمي المتنامي؟ انطلاقًا من هذا التساؤل، برزت الحاجة إلى إعادة التفكير في العلاقة بين التقنية والذات الإنسانية، وهو ما دفعني إلى اقتراح مفهوم "تذويت الرقمنة"، استلهامًا من مفهوم "تذويت المعرفة"، ليكون إضافة فكرية جديدة إلى الأدبيات العالمية في مجالات التقنية والسلوك والوعي.

يهدف هذا المفهوم إلى نقل الرقمنة من كونها ممارسة تقنية محضة إلى كونها تجربة ذاتية واعية، تتجلى فيها قدرة الإنسان على تحويل التقنية من أداةٍ إلى امتدادٍ لوعيه وإدراكه. فـ"تذويت الرقمنة" لا يُطرح بوصفه مصطلحًا نظريًا فحسب، بل باعتباره إطارًا تصوريًا ونظرية سلوكية شاملة تسعى إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا ضمن سياقٍ أكثر وعيًا وتكاملًا.

وبهذا المعنى، يتجاوز المفهوم الطابع الأداتي للتقنية ليجعلها عنصرًا فاعلًا في بناء الوعي الإنساني وسلوكه العقلاني في الفضاء الرقمي. إن "تذويت الرقمنة" يسعى إلى ردم الفجوة بين التطور التكنولوجي والسلوك الواعي، واضعًا الإنسان في قلب هذا التحول، بوصفه الفاعل الأصيل الذي تُقاس به قيمة الرقمنة وجدواها.

"الرقمنة" في نظري ليست فقط ما نستخدمه، بل ما نُصبح عليه. إنها تحوّل في طرائق إدراكنا للزمن، وللمكان، ولأنفسنا. بهذا المعنى، أرى أن الرقمنة ليست ثورة في الأدوات، بل في الوعي ذاته. فهي تحوّل في كيفية الوجود الإنساني، وفي علاقة الإنسان بمعرفته وبالآخرين وبالواقع من حوله.

ثانياً: الذات بين الوجود الواقعي والرقمي

لقد باتت الذات الحديثة تتشكّل في فضاء مزدوج: فضاء مادي ملموس وآخر رقمي متخيّل.

في العالم الرقمي، يُعاد تشكيل الهوية وفق رموز وصور ومعطيات تُمثّل الذات ولكنها لا تُطابقها بالضرورة.

من هنا يأتي السؤال الفلسفي: هل ما زالت الذات «أنا» كما كنتُ أفهمها سابقاً؟

إن "تذويت الرقمنة" بالنسبة لي هو محاولة لاستعادة هذا الأنا داخل الفضاء الرقمي. فبدل أن أُختزل إلى صورة أو خوارزمية، أُريد أن أُعيد إلى وجودي الرقمي طابعًا إنسانيًا قيميًا. أي أن أكون فاعلًا رقميًا واعيًا، لا مجرد مستخدمٍ مستهلِك. بهذا الفهم، تصبح الرقمنة امتدادًا لذاتي، وليست بديلاً عنها.

ثالثاً: الرقمنة كمعرفة مُعاشة

من منظور إبستمولوجي، أرى أن الرقمنة ليست فقط وسيلة لإنتاج المعرفة، بل بيئة تُعيد تشكيل أساليب إدراكنا للعالم. لكنّ الخطر يكمن حين تتحول المعرفة الرقمية إلى كمٍّ من المعلومات بلا معنى. لذلك، فإنّ "تذويت الرقمنة" يعني تحويل المعرفة الرقمية إلى خبرة إنسانية مُعاشة - أي أن نُعيد ربطها بالوجدان، بالوعي، وبالقيمة على مستوى الفرد، المؤسسة، المُجتمع في تكوين الذات وقيمها، فالمعرفة الرقمية، حين تُذوّت، تصبح أداةً لتوسيع الإدراك لا لتقليصه، وتتحول البيانات إلى حكمة رقمية تُثري التجربة الإنسانية، وهُنا أستعير من ميرلوبونتي فكرته عن "الجسد الظاهراتي" بأن الجسد ليس مجرد "شيء" مادي يمكن دراسته موضوعيًا، بل هوتجربة حية ومُشتركة بين الذات والعالم، وكذلك الرقمنة باتت اليوم جُزءاً من امتداد إدراكي جديد للذات الإنسانية.

رابعاً: في أخلاقيات التذويت

حين تغدو الرقمنة جزءًا من وعينا، تصبح الأخلاق الرقمية جزءًا من ضميرنا الداخلي، لا لوائح خارجية تُفرض علينا. أؤمن بأنّ الأخلاق الحقيقية لا تُولَد من القوانين بل من الوعي الذاتي. لذلك، فإنّ تذويت الرقمنة هو أيضاً مشروع أخلاقي يهدف إلى بناء ضمير رقمي، يوازن بين الحُرية والمسؤولية في الفضاء الإلكتروني.

في هذا السياق، أرى أن الرقمنة لا يجب أن تُقصي الإنسان، بل أن تُعيد تمكينه من ممارسة إنسانيته في العالم الافتراضي؛ فالرقمنة بلا وعي هي عبودية جديدة، أما الرقمنة المذوّتة فهي تحرّرٌ للإنسان من أَسر الأدوات إلى رحابة المعنى.

خامساً: نحو أنسنة رقمية

أطمح من خلال هذا المفهوم إلى المساهمة في ما أسميه الأنسنة الرقمية - أي إعادة توجيه التحول الرقمي ليخدم الإنسان لا أن يُقصيه. إن الثورة الصناعية الخامسة تمنحنا فرصة نادرة للانتقال من التقنية بوصفها سُلطة إلى التقنية بوصفها شريكًا في الوجود. وفي هذا الانتقال، لا بد أن يُعاد تأسيس الفكر الإنساني على وعيٍ رقميٍّ متوازن: وعيٍ يُدرك أن الرقمنة ليست نهاية الإنسان، بل بداية لمرحلة جديدة من إنسانيته.

وفي الختام عزيزي القارئ الكريم، إن "تذويت الرقمنة" ليس شعارًا أو توصيفًا لغويًا؛ إنه مشروع فلسفي ووجودي يسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين الذات والتقنية على أسس إنسانية. أرى في هذا المفهوم طريقًا لتجاوز الانقسام بين الإنسان والآلة، وبين الوعي والبيانات؛ فالرقمنة، حين تُذوّت، تصبح فضاءً للمعنى، ومجالًا جديدًا لممارسة الحرية الإنسانية. لقد حان الوقت لأن ننتقل من التحول الرقمي إلى التحول الإنساني داخل الرقمنة؛ حيث لا نعيش في العالم الرقمي فحسب، بل نجعله يعيش فينا.