قراءة أولية في مستقبل اقتصاد الضفة الغربية بعد الصفقة
المؤشر 15-10-2025
الكاتب: حنين غالب
في ظل دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس حيز التنفيذ، بعد صفقة رعَتها الإدارة الأميركية، تقف الضفة الغربية أمام مشهد اقتصادي ضبابي، تتداخل فيه المؤشرات الأولية مع حالة من الترقب الحذر. فحتى اللحظة، لا يمكن الحديث عن تحولات واضحة في قطاعات العمالة أو التجارة الخارجية أو التصاريح المرتبطة بالدخول والعمل، بل إن ما يتوفر هو مجموعة من الإشارات المتفرقة التي تسمح بقراءة أولية لمآلات الاقتصاد الفلسطيني في حال استقرت الأوضاع الأمنية والسياسية.
القدرة التشغيلية في الضفة الغربية تراجعت بشكل حاد خلال فترة الحرب، ليس فقط نتيجة توقف تصاريح العمل داخل الخط الأخضر، بل بفعل انهيار متسلسل في الدورة الاقتصادية الداخلية. فمع انخفاض الاستهلاك المحلي، تراجع الإنتاج، وتقلّصت الفرص الاقتصادية، مما أدى إلى انخفاض الدخل، وتراجع الطلب، ثم تقلص العرض، فبدأت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بتقليص عدد الموظفين، مما عمّق من أزمة التشغيل، وأعاد إنتاج الحلقة ذاتها بشكل أكثر حدة. هذا الانكماش لم يقتصر على العمالة المرتبطة بإسرائيل، بل شمل أصحاب المصالح المحلية، الذين وجدوا أنفسهم أمام بيئة تشغيلية غير مستقرة، وطلب استهلاكي هش، وتكاليف تشغيلية متزايدة.
محمود عودة، تاجر مواد غذائية، عبّر عن تشاؤمه من عودة الحركة التجارية إلى ما كانت عليه، خاصة عبر البحر الأحمر، موضحًا أن "الاتفاق لا يشمل أصلًا أي بنود تتعلق بالسياسة الخارجية أو التوتر العسكري بين إسرائيل واليمن، وهذا يعني أن خطوط الشحن ستبقى متأثرة، والتكلفة ستبقى مرتفعة". وأضاف أن العلاقات المتوترة بين إسرائيل وتركيا تُلقي بظلالها على سلاسل التوريد، وأن "الخسائر، تبقى دون أي تعويض أو حماية من أي جهة".
في الوقت ذاته، تأثرت حركة البضائع والاستيراد بعوامل تتجاوز المعابر الإسرائيلية. فالأحداث الأمنية في البحر الأحمر، خاصة الهجمات التي طالت السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل، دفعت العديد من شركات الشحن إلى تغيير مساراتها، متجنبة المرور عبر مضيق باب المندب. هذا التحول رفع تكاليف النقل البحري بنسبة تجاوزت 40% في بعض الحالات، وأدى إلى تأخير وصول البضائع، وتقليص حجم الشحنات، وارتفاع أسعار السلع المستوردة. أما البضائع الفلسطينية، فقد واجهت تنكيلًا ممنهجًافي الموانئ الإسرائيلية، حيث تُجبر الحاويات على الانتظار لفترات طويلة، ما يحمّل التجار تكاليف تخزين مرتفعة تُعرف بـ"أجرة الأرضية"، وهي رسوم تُفرض على كل يوم تأخير، وتُعد من أعلى الرسوم في المنطقة، مما يرفع تكلفة السلعة النهائية ويُضعف القدرة التنافسية للمنتج الفلسطيني، يتوقع بعض التجار بأن يبقى الوضع على ما هو بعد الصفقة في هذا السياق خاصة أن اسرائيل مستفيدة جداً من مثل هكذا تعقيدات وإجراءات، فهي تاخذ غرامات عاليه ولهذا السبب يعد الميناء من احد اهم مقومات الاقتصاد الاسرائيلي.
على سبيل المثال، شهدت العلاقات الاقتصادية بين الأردن وفلسطين نوعاً من الجمود شبه الكامل خلال فترة الحرب، إذ تعطلت حركة البضائع بفعل القيود الأمنية والإغلاقات المتكررة، ما أدى إلى تراجع حاد في حجم التبادل التجاري، أما بعد الصفقة التي من المفترض أنها أنهت العمليات العسكرية، فتتجه التوقعات نحو انتعاش تدريجي في الواردات الفلسطينية من الأردن، خاصة قطاعي الغذاء والدواء، في حين تبقى الصادرات الفلسطينية محدودة بفعل ضعف البنية الإنتاجية واستمرار القيود على المعابر، ومع ذلك، فأن أي تخفيف محتمل للقيود أو دعم دولي موجه قد يفتح المجال أمام شراكات اقتصادية أوسع، ويعيد تشكيل المعادلة التجارية بين البلدين على أسس أكثر تكامل واستقرار
أما التصاريح، فلا تزال محكومة بحالة من عدم اليقين. فحتى الآن، لم تُعلن الجهات الإسرائيلية عن أي آلية واضحة لإعادة تفعيل تصاريح العمل، سواء داخل الخط الأخضر أو في المستوطنات الصناعية. وبينما يتداول بعض الخبراء تقديرات غير مؤكدة حول إمكانية إعادة تشغيل عشرات الآلاف من التصاريح، فإن الواقع يشير إلى غياب أي ضمانات، واستمرار حالة التجميد، مما يُبقي آلاف الأسر دون مصدر دخل ثابت. ميس الحامد، عاملة تنظيف في أحد المستشفيات الإسرائيلية، قالت إنها "منذ بداية الحرب بلا عمل مستقر، ولم يتم تعويضي بأي شكل"، مضيفة أنها لا تتوقع عودة التصاريح قريبًا، "لأن الوضع لا يزال متوترًا، والمعابر كانت دائمًا مذلة ومخيفة، والآن صارت أكثر رعبًا". ميس، التي وجدت عملًا مؤقتًا داخل الضفة خلال فترة الحرب، أكدت أنها لن تعود للعمل في الداخل حتى لو أُعيدت التصاريح، "لأني لا أشعر بأي أمان، ولا أريد أن أكون كبش فداء مرة أخرى".
في المقابل، يُبدي بعض العمال تفاؤلًا حذرًا. أشرف مغربي، مزارع فلسطيني كان يعمل في أراضٍ داخل الخط الأخضر، عبّر عن ثقته بأن "العمل سيعود إلى ما كان عليه قبل الحرب، بل وأفضل"، موضحًا أن إسرائيل "بحاجة ماسة للعمال الفلسطينيين، خاصة في الزراعة والإنشاءات، ولن تجد بديلًا مماثلًا". وأشار إلى أن "العمال الذين جلبتهم إسرائيل من الصين والهند خلال الحرب لا يمكنهم تعويض الجودة التي يقدمها العامل الفلسطيني"، واصفًا هذا التوجه بأنه "حل عشوائي لن يستمر".
ولا يمكن قراءة المشهد الاقتصادي بمعزل عن الواقع السياسي والأمني في الضفة الغربية، حيث تستمر هجمات المستوطنين بشكل شبه يومي، وتُسجّل حالات طرد قسري من مناطق سكنية فلسطينية، ومصادرة أراضٍ زراعية لصالح بناء وحدات استيطانية جديدة. هذا التوسع الاستيطاني لا يُهدد فقط الأمن الشخصي، بل يُعيد تشكيل الجغرافيا الاقتصادية، ويُضعف من قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى أراضيهم، أو التنقل بين المدن، مما يُعيق التشغيل، ويُقلّص من فرص الاستثمار. ففي استطلاع رأي ميداني أُجري مؤخرًا في الشارع الفلسطيني، أكد غالبية المشاركين أن الخوف من عبور شوارع تُسيطر عليها المستوطنات يمنعهم من الوصول إلى أماكن عملهم، خاصة أولئك الذين يعملون بين رام الله ونابلس، أو يضطرون لاستخدام طرق التفافية تمر بمحاذاة المستوطنات.
لكن، في حال تحقق استقرار أمني نسبي، وإعادة فتح المعابر التجارية، وعودة تدريجية لتصاريح العمل، يُتوقع أن تشهد بعض القطاعات الاقتصادية في الضفة الغربية انتعاشًا وازدهاراً ملموسًا، خاصة تلك التي تمتلك مرونة تشغيلية وقدرة على التوسع السريع. قطاع الإنشاءات، الذي تضرر بشدة خلال الحرب، يُعد من أبرز المرشحين للانتعاش، مدفوعًا بمشاريع إعادة الإعمار في غزة، وطلب داخلي متزايد على البنية التحتية السكنية والخدمية، خاصة في المناطق التي شهدت توسعًا سكانيًا بفعل النزوح المؤقت. كما يُتوقع أن يستعيد قطاع الزراعة زخمه، لا سيما إذا تم تخفيف القيود على التصدير نحو الأردن والخليج، حيث تُظهر بيانات وزارة الزراعة الفلسطينية أن أكثر من 60% من المزارع في الضفة قادرة على مضاعفة إنتاجها خلال ستة أشهر إذا توفرت شروط النقل والتسويق. قطاع الخدمات الرقمية والتعليم يُعد أيضًا من القطاعات الواعدة، خاصة في ظل التحول نحو الاقتصاد الرقمي، ووجود بنية شبكية جيدة نسبيًا في المدن الكبرى، مما يُتيح فرصًا للتوسع في التدريب، البرمجة، والتجارة الإلكترونية. أما الصناعات الصغيرة والمتوسطة، فقد تستفيد من إعادة هيكلة سلاسل التوريد، وتزايد الطلب المحلي على المنتجات البديلة، خاصة في مجالات الأغذية، المنسوجات، والمنتجات الحرفية، مما يُعزز من قدرتها على توليد عوائد مستقرة، ويُعيد تموضعها في السوق الداخلي والإقليمي.
في ظل هذا الواقع، يبقى المشهد الاقتصادي في الضفة الغربية رهينًا لمعادلة معقدة، تتداخل فيها السياسة والأمن مع مؤشرات السوق. وبين من يرى في وقف إطلاق النار فرصة لإعادة تنشيط الاقتصاد، ومن يُحذّر من إعادة إنتاج التبعية بشكل أكثر تعقيدًا، يبقى السؤال مفتوحًا حول قدرة الفلسطينيين على تحويل هذه اللحظة إلى نقطة انطلاق نحو اقتصاد أكثر استقلالية وعدالة.



