اسرائيل لن توقف الحرب على غزة التي تدحرجت من انتقامية الى تأسيسية

اسرائيل لن توقف الحرب على غزة التي تدحرجت من انتقامية الى تأسيسية

المؤشر 22-07-2025  

د. هاني الروسان

اغلب الظن ان اسرائيل غير معنية في اللحظة الراهنة بانهاء الحرب على غزة ليس لانها لم تقض بعد على حركة حماس او انها لم تحرر اسراها لدى الفصائل الفلسطينية، بل لان هذه الحرب تدحرجت في ظل انكسار عربي، وانشغالات دولية، من كونها حرب انتقامية ردا على هجوم السابع من اكتوبر عام 2023، الى حرب وظيفية، لم تستنفذ بعد او لم تستكمل بعد تحقيق كل تلك الاغراض التي اليها تدحرجت في اطار رؤية جديدة للدور الاسرائيلي في الشرق الاوسط الجديد.

فقد صار علينا ان نعيد قراءة استمرار الحرب في غزة لا بوصفها فقط تعثرا في الحسم أو عجزًا عن تحقيق الأهداف المباشرة لها كاستعادة الأسرى أو القضاء على حماس، بل ينبغي وهذا الاهم قراءة استمرارها  كخيار استراتيجي ، يُمارس بدعم أميركي ، في إطار مسار تحويلي يتجاوز غزة إلى إعادة تشكيل المشرق على أسس جديدة تُمكّن إسرائيل من تثبيت مركزيتها في نظام إقليمي قيد الإنشاء. فالحرب لم تُترك مفتوحة ليس فقط لانها فشلت في تحقيق أهدافها، بل لأنها لم تستنفذ وظيفتها بعد، والمتمثلة باعادة صياغة شرق أوسط مختلف، لا يتسع لاي شكل من اشكال المقاومة، ولا لسيادات وطنية مستقرة، بل يتشكل على قاعدة سيولة سياسية وجغرافية تُمكّن إسرائيل من احتلال قلب النظام الإقليمي بوصفها الطرف المُنظِّم للاضطراب فيه، لا مجرد المستفيد منه.

فاسرائيل تدرك ان انهاء هذه الحرب حتى ولو جاء من بوابة  انتصار تكتيكي فانها تعني اغلاق لحظة استثنائية فريدة وفّرها لها الميدان الغزّي: لحظة انكسار كامل للمنظومة العربية التقليدية، وكان قبل ذلك تبدّل في موازين الفعل الاقليمي ولدت من رحم  تصدّع النفوذ الأميركي بعد بروز توازنات دولية جديدة. لذلك فان اسرائيل التي تراقب كل ذلك، تدرك أن الاستمرار في الحرب يُبقي الإقليم في حالة تجريب مفتوح، يسمح لها بأن تكون العنصر الثابت الوحيد وسط مشهد متحوّل، كما يسمح لها بأن تملأ الفراغ القيادي في المنظومة العربية بمزيد من المبادرات الأمنية والتطبيع القسري والاختراقات البنيوية للنسيج السياسي والاجتماعي العربي. لذلك فإن الحرب، بما هي عليه الآن، تشكّل لحظة تأسيسية لمشروع إقليمي لا تُصاغ فيه الخرائط بالحبر بل بالنار، ولا تُحدَّد فيه الوظائف بالدبلوماسية بل بالقدرة على تعطيل المسارات البديلة.

فالمسألة لم تعد بقاء حماس أو زوالها، بل في الوقت السياسي الذي تتيحه هذه الحرب لإسرائيل كي تُعيد تركيب الشرق الأوسط وفق شروط تمركزها الجديد. فكل يوم يمر دون وقف لإطلاق النار يعني فرصة إضافية لاختبار شكل مختلف للعلاقات الإقليمية، يعاد فيه تعريف الاصدقاء والاعداء، والحلفاء والمنافسيين وغير ذلك من مثل هذه الثنائيات . وعلى ضوء هذا فانه  يصعب تصور وجود رغبة او حاجة حقيقة لدي اسرائيل اليمينة التي تعربد اليوم في اجواء مفتوحة سقفها حدود سماء اسطنبول لانهاء الحرب، بل إلى تواصلها حيث تحول الزمن فيها الى أداة هندسة استراتيجية. ولهذا، فان كل ما يُقال عن وساطات ومبادرات وضغوط لا يغيّر في حقيقة أن خيار الحرب ليس ردّ فعل على فشل في تحقيق بعض الاهداف التكتيكية، بل انه تصور تنفيذي بعيد المدى ومتعدد الاغراض، وأن السقف الإسرائيلي ليس نزع سلاح فصائل المقاومة، بل نزع المعنى السياسي من الوجود الفلسطيني برمّته.

فالمستهدَف في جوهر هذه الحرب ليس حماس كتنظيم فقط ، بل اي وجود فلسطيني كفاعل سياسي، وكسردية جمعية، وكحقّ في تقرير المصير. إسرائيل تُدرك أن القضاء على بنية المقاومة في غزة لن يكون ذا جدوى إذا بقي الشعب الفلسطيني يُنتج سرديته ويحتفظ بمخزونه الرمزي كقضية تحرر وطني. ولذلك، فإن الاستهداف يشمل اليوم الكلّ الفلسطيني: السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة التي تخضع لحصار خانق وفي داخل قبل عام 1967 الذي يُدفع للانكفاء والذوبان، وفي الشتات الذي يُمنع من إعادة التشكل، وفي غزة التي تُقصف ليس فقط لهزيمة حماس، بل لكسر نموذج الإرادة في البقاء والحياة. فهذه الحرب تريد أن تُعيد تعريف الفلسطيني، لا أن تُفاوضه أو تهزمه فقط، أن تُحوله من ذات سياسية إلى مُجرد كتلة بشرية خاضعة، لا تملك القدرة على التعبير أو الاعتراض أو الحلم.

والدعم الأميركي لهذا المسار لا يُختزل في تزويد اسرائيل بالسلاح أو تعطيل قرارات وقف إطلاق النار، بل هو تعبير عن توافق عميق على الوظيفة الجيوسياسية للحرب. فواشنطن التي تُدرك تضاؤل قدرتها على ضبط العالم من خلال الأدوات القديمة، تجد في هذا الصراع المفتوح رافعة لفرملة الاندفاعات الروسية والصينية في المنطقة، وإعادة ضبط الإقليم على إيقاع العنف المنظَّم، لا الاستقرار السيادي. ولعل ما يجعل غزة الميدان المفضّل لهذه الاستراتيجية هو قابليتها للاستنزاف طويل الأمد، وكونها تعيد تذكير العرب بعجزهم، وتعيد تذكير العالم بأن التفاوض مع إسرائيل لا يتم إلا بعد العبور من الجحيم.

في هذا الإطار، فإن أي نهاية للحرب قبل أن تستكمل إسرائيل وظائفها منها تُعتبر فشلًا استراتيجيًا. ليس لأن إسرائيل عاجزة عن الحسم، بل لأنها لا تريد أن تُقفل لحظة تاريخية فتحت لها بابًا نادرًا لإعادة ترتيب المنطقة على نحو يلغي المسألة الفلسطينية في أصلها، لا في تمظهراتها العسكرية فقط، ويحول بقايا الكيانات السياسية من حولها إلى وحدات وظيفية داخل نطاق السيطرة الأمنية أو السياسية. وبذلك، فإن الحرب لم تعد وسيلة لتصفية مقاومة، بل أداة لتصفية كل فكرة عن شرق أوسط يمتلك قواه الذاتية. وكلما طالت، زادت قابليتها لتدمير ما تبقّى من مناعة سياسية في الإقليم، وزادت قدرتها على فرز الخريطة وفق معيار وحيد: من يقبل بإسرائيل كمرجعية؟ ومن يُقصى خارج المعادلة؟

وهكذا، فإن استمرار الحرب في غزة ليس قرارًا تكتيكيًا بل استراتيجية تأسيسية. إسرائيل لا تنتظر نصرًا نهائيًا، بل تسعى إلى إدامة لحظة تحوّل جذري تشكّل فيها النظام الإقليمي من جديد، لا عبر التسويات والاتفاقيات، بل عبر الحروب المركّبة والمفتوحة. ولذا، فإنها لن تقبل بوقف الحرب ما دامت هذه اللحظة لم تُستنفذ بعد، وما دامت لم تُنتج شرقًا أوسط لا يُشبه ما قبله، شرقًا أوسط لا مكان فيه لسلاح فوضوي، او عقل خارج عقل الدولة في هذا الشرق الجديد بل ولا مكان فيه لفلسطين بوصفها سؤالًا سياسيًا أصلًا.