ويبقى لبنان عسير الهضم على الغزاة

ويبقى لبنان عسير الهضم على الغزاة

المؤشر 15-07-2025

د. إدريس هاني

مرة أخرى، يجسد لبنان مثالًا حيًا على الفكرة الأثيرة لبرتراند بادي حول “زمن المهانين”. لا يقتصر الأمر اليوم على العدوان العاري وخرق المواثيق الدولية بالجملة، بل ثمّة خطاب إمبريالي للإذلال.

يبدو أننا تجاوزنا قواعد اللعب، وبات الخطاب الجيوستراتيجي في وضعية الابتذال. وهذا يحدث بفعل سعار الحرب القذرة وذهان القوة المفرطة. لقد بلغت الإمبريالية مرحلة الذروة في سياسة الإذلال في الشرق الأوسط، وهي تتصرّف كمنتصر يملي شروطه قبل أن تُحسم الحرب.

ولتأكيد ذلك، لا بد من جسّ النبض وخوض الحرب النفسية. متى يا تُرى كانت الحرب القذرة تحسم الحرب؟

ويومًا بعد يوم، يتّضح أن مهمة المقاومة كانت ولا تزال هي إيقاف الاحتلال من تنفيذ المخطط بحذافيره. لقد أزرمت المقاومة المخطط وتركته مزقًا، وهذا ما يتجنّب الاحتلال الاعتراف به، لكنّ التاريخ يحتفظ بجولات أخرى من مكره الخفي.

بالنسبة إلى تلميحات المبعوث الأمريكي، توم باراك، بخصوص لبنان، فهي تطبيق لخطاب “عصر الإهانة” بامتياز. تصبح الدبلوماسية هنا حارقة؛ فهو ليس خطابًا استفزازيًا حد الوقاحة فحسب، بل اختبارًا للإرادات، بلغة خارقة لميثاق الأمم المتحدة. ثمة شكل من الابتزاز والمقايضة في أفق شرق أوسط جديد برزت كل ملامحه العبيطة: عصر إمبراطورية الاحتلال، وتجزيء المجزّأ، ومحوه عند الاقتضاء. الصفقة مكتملة: الجولان مقابل لبنان، وكأن الخرائط الجديدة باتت جاهزة. الإهانة، مرة أخرى، ملازمة لسياسة التدخل، وكأنّ لبنان مزرعة أبيهم، وليس دولة ذات سيادة وعراقة.

هذا الخطاب، في حد ذاته، خرق سافر للمواثيق والأعراف الدولية. وهنا، تبقى مسؤولية الأمم المتحدة مضاعفة وملحة إزاء ما يحدث ضد لبنان، باعتباره عضوًا فيها. كما أن جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي معنيتان بموقف حقيقي تجاه هذا العدوان على السيادة اللبنانية.

من جهة أخرى، تبدو المفارقة في منتهى شططها. فالذين ناهضوا التواجد السوري في لبنان منذ سنوات، مع أنه جاء في سياق مخرجات مؤتمر الطائف وكقرار عربي، لإعادة الوضع في لبنان إلى طبيعته عشية الحرب الأهلية، الآن صمتوا بوقاحة أمام التلويح بتسليم لبنان لسوريا، في تسوية مع زعيم النصرة الذي اختطف مصير سوريا بدعم سافر من الغزاة. ما يؤكد، مرة أخرى، على أن سيادة لبنان، في خطاب الطابور الخامس، لم تكن سوى شعار انتهازي للاستهلاك.

ومع ذلك، هناك مكر التاريخ الذي جعل لبنان اليوم عاريًا أمام الاحتلال والقوى الدولية التي تحاول محوه من الخريطة. كما تبين أن نزع سلاح المقاومة غايته أبعد من خفض التوتر مع الاحتلال، وأبعد مدى حتى من فرض التطبيع على بلد تعرض للاحتلال ولحرب إبادة. لقد بات واضحًا أنه آخر سلاح بقي للبنان لحماية الدولة من صفقة إمبريالية تستهدف وجوده. وهنا، تكون المقاومة قد ربحت الشرعية الكاملة، واستعادت شرف قضيتها من أوسع الأبواب. وهي قادرة على أن تحبط المؤامرة، وتعزز فكرة أن قوة لبنان تكمن في مقاومته.

لقد أفلست كل مزاعم من يعتبر سلاح المقاومة يهدد الدولة، قبل أن يطل ترامب من فوق الشجرة، ليقول: “انتهى الزمن الجميل للبنان”، وليمنح دورًا مشبوهًا لزعيم ضيعة الشام الضائعة منذ سقوط النظام، بمؤامرة دولية وتواطؤ مع فلول القاعدة.

لقد أصبحت المهمة التاريخية للمقاومة هي حماية كامل التراب اللبناني، وحينها سيتضح أكثر المخطط الجهنمي الذي جهزوه للبنان. وحينئذ، لم يبقَ أمام جامعة الدول العربية إلا أن تحل نفسها، بعد أن تمزق الميثاق القومي. كما لن يبقَ أمام منظمة المؤتمر الإسلامي إلا أن تحل نفسها هي الأخرى، بعد أن فقدت دورها وتحولت إلى عشّ دبابير للتشنيع والتآمر على بعضها البعض.

تبدو المؤامرة إذن كبيرة، لكن إرادة الأمة أكبر، وهي حبلى بالأمل. فالتحرر الوطني، في زمن الإهانة وفرط التدخل، لن يتوقف. وسيدرك الشعب اللبناني، الذي خرق كل حسابات الاحتلال والغزاة، بأنه أكثر قدرة على اختيار لحظة قلب الطاولة على هذا التهريج الإمبريالي.

كما أن لبنان، شعبًا ومقاومةً وجيشًا، هو أقوى شكيمة من أن يُسلّم لحفنة من المرتزقة المنحدرين من معسكرات إدلب، وهم، رغم سعارهم الاستقتالي، فرّارون غير كرّارين. فحرب الوكالة القادمة ستكون أخسر من سابقتها، لأن ابتلاع لبنان سيكون مغامرة عسيرة الهضم. إنّ لبنان قالعٌ براثن الاحتلال، ورجاله من سنخ واحد، في الاستجابة للتحدي وابتكار طرائق المقاومة. فالذين حفروا أنفاقهم بأظافرهم، وزرعوا الجبال كرامة، هم الخالدون. وأيًّا كان الخيار، فلبنان الصامد لن يكون وحده في هذه المعركة.

كاتب ومفكر مغربي