من الملعب إلى الهوية: قصة صعود كرة القدم الفلسطينية

من الملعب إلى الهوية: قصة صعود كرة القدم الفلسطينية

المؤشر 06-12-2025 

الكاتب: د. ربحي دولة

تعيش كرة القدم الفلسطينية واحدة من أكثر الحكايات الإنسانية والرياضية تميزاً في المنطقة، فهي ليست مجرد لعبة أو منافسة تقليدية، بل هي امتداد لصراع طويل يخوضه الشعب الفلسطيني من أجل البقاء وإثبات الذات. وفي بطولة كأس العرب الأخيرة، بدا واضحاً أن المنتخب الفلسطيني لا يشارك فقط من أجل تسجيل حضور رمزي، بل من أجل أن يقول بصوت عالٍ إن فلسطين قادرة على المنافسة والانتصار رغم كل أشكال الإقصاء والحصار.

وقد جسّد المنتخب الفلسطيني هذه الحقيقة منذ مباراته الأولى، حين تمكن من تحقيق فوز صادم على أصحاب الأرض الذين يملكون كل ما يمكن أن يحتاجه منتخب محترف من مقومات الدعم، المنشآت، الموارد البشرية والمالية. ورغم أن الفارق في البيئة الرياضية بين الطرفين كان كبيراً، فإن الفدائي لعب بروح عالية، فانتصر لذاته ولشعبه، وأثبت أن الروح أحياناً تتفوق على الإمكانات. لم يكن ذلك الفوز مجرد حدث رياضي، بل كان رسالة سياسية ومعنوية بأن الهوية الوطنية لا يمكن أن تُقهر حتى داخل الملاعب.

وفي المباراة الثانية أمام تونس، المنتخب العريق والمتأهل لكأس العالم، خرج المنتخب الفلسطيني بتعادل كان أقرب إلى الفوز منه إلى اقتسام النقاط. لقد احترم المنتخب التونسي الفدائي احترام الكبار، لأنه وجد أمامه فريقاً منضبطاً، مقاتلاً، يلعب بذكاء، ويترجم كل فرصة إلى قيمة مضافة في الملعب. هذا التعادل لم يكن عادياً، بل حمل في طياته اعترافاً إقليمياً بأن فلسطين أصبحت رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه مهما كانت الظروف.

لكن ما يجعل هذه الإنجازات أكثر قيمة أنها صادرة عن منتخب يفتقر إلى كل ما يعتبر أساسياً في بناء كرة القدم الحديثة. فالفدائي يلعب بلا ملعب بيتي ثابت، حيث يتم منع إقامة المباريات الدولية في الأراضي الفلسطينية في كثير من الأحيان لأسباب أمنية مفروضة بالقوة. كما أن الدوري المحلي لا يعيش دورة كاملة مستقرة، بل يتعرض للتعطيل المتكرر بفعل إغلاقات، واجتياحات، وحواجز، وتقييد لحركة اللاعبين. وهناك لاعبون يفوتون المعسكرات بسبب منعهم من المرور، وآخرون يخضعون للاستجواب فقط لأنهم يحاولون الانضمام لمنتخبهم الوطني.

ورغم كل ذلك، يصرّ المنتخب على الظهور في كل بطولة ويقدّم أداءً يليق باسمه. هذا الإصرار لم يكن ليحدث لولا وجود قيادة رياضية واعية عملت في ظروف لا تشبه ظروف أي مؤسسة رياضية في العالم. لقد شكّل اللواء جبريل الرجوب مع الهيئات الفنية والإدارية المحيطة به قاعدة مؤسساتية لنهضة الرياضة الفلسطينية، فتم تنظيم البطولات المحلية، وتأهيل عدد من الملاعب، وفتح خطوط اتصال مع الاتحادات الدولية، وضمان الاعتراف العالمي بحق فلسطين في المشاركة الكاملة. هذه الجهود لم تكن مجرد إدارة للرياضة، بل كانت جزءاً من مشروع سياسي وثقافي هدفه تثبيت الشعب الفلسطيني على الخارطة الدولية من خلال لغة يفهمها الجميع: لغة الرياضة.

وفي قلب هذه الحكاية تظهر الشخصيات التي تسهم في تشكيل ملامح الهوية الرياضية الفلسطينية، ومن بينها رامي حمادة. رامي ليس مجرد حارس مرمى، بل هو نموذج لفلسطيني يعيش في الداخل المحتل، لكنه رفض التخلي عن هويته الفلسطينية. لم يمنعه موقعه الجغرافي ولا ظروفه الخاصة ولا الحسابات المعقدة هناك من إعلان انتمائه الكامل لفلسطين، فاختار أن يرتدي قميص المنتخب الوطني وأن يدافع عن مرماه بروح من يعرف أنه لا يمثل فريقاً فحسب، بل يمثل شعباً كاملاً. اشتهر بقدراته العالية، لكنه اشتهر أكثر بصلابته في المواقف الصعبة، وبوفائه لهوية لا يمكن أن يتخلى عنها. وجوده في المنتخب هو بحد ذاته رسالة: أن الهوية الفلسطينية لا تُختزل في حدود جغرافية، بل هي إحساس وانتماء وقناعة وقرار.

إن تطور كرة القدم الفلسطينية لم يكن نتيجة عمل مؤقت أو مصادفة عابرة، بل نتيجة مسيرة طويلة من التحدي. فمنذ بداياتها، واجهت الرياضة الفلسطينية تضييقاً ممنهجاً، وحرماناً من البنى التحتية، وتعطيلاً مستمراً للدوريات والأنشطة. لكن مع مرور الوقت، وبفضل إرادة اللاعبين والمدربين والإداريين، أصبحت فلسطين تشارك في البطولات القارية، وتتأهل إلى كأس آسيا، وتحظى بتقدير اتحادات إقليمية ودولية. لقد كانت مشاركات المنتخب الفلسطيني دوماً فعل مقاومة، وصورة عن إصرار شعب على الوجود في كل ساحة.

ولأن الرياضة باتت انعكاساً للواقع السياسي، فإن المنتخب الفلسطيني، في كل مرة يدخل فيها ملعباً خارج حدوده، يدخل إليه بوصفه وفداً وطنياً يحمل قضية. هو لا يلعب فقط، بل يعبّر في أدائه عن إرادة شعب يعاني لكنه لا يستسلم، يُحاصر لكنه لا ينكسر، يُحارب لكنه لا يتخلى عن حلمه. ولذلك لا يمكن النظر إلى كل فوز أو تعادل فلسطيني بوصفه نتيجة اعتيادية، بل بوصفه إنجازاً مضاعفاً، يحمل في طياته الكثير من الألم والكثير من العزة في آن واحد.

اليوم، يمكن القول إن كرة القدم الفلسطينية وصلت إلى مرحلة النضج، رغم كل الظروف القاهرة. لقد أصبحت قادرة على منافسة كبار العرب، وتستطيع مواجهة منتخبات تملك من الموارد أضعاف ما يملكه الفدائي. ولعل الأهم من ذلك أنها أصبحت صوتاً للهوية، ومساحة يجتمع فيها الفلسطينيون من كل مكان، من غزة إلى الضفة، ومن الشتات إلى الداخل المحتل، ومن كل مدينة ومخيم.

لقد أثبت المنتخب الفلسطيني أن الانتصار ليس بالمال وحده ولا بالبنى التحتية وحدها، بل بروح الانتماء والالتزام. وأن فلسطين، رغم الجراح، تواصل الحضور بثبات في كل المحافل، الرياضية منها وغير الرياضية. وقد يكون الملعب اليوم واحداً من أهم الفضاءات التي تقول فيها فلسطين للعالم: نحن هنا، نلعب، نتحدى، ننتصر وينتصر الوطن .