بالدليل والسوابق الخسائر الاستراتيجية الإسرائيلية بدأت
المؤشر :16-03-2024
بقلم : ليلى نقولا
مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها السادس، ومع انتشار صور الدمار والمجاعة في القطاع، بدأت أصوات عربية تخرج لتقول إن حماس ارتكبت عملاً غير محسوب النتائج، وإنها أدّت إلى خسارة غزة وخسارة القضية الفلسطينية، وإن حماس أعطت الفرصة لـ “إسرائيل” لتستفيد من تلك الحرب لتقضي على قطاع غزة كلياً، وتعيد احتلاله وتقضي على ما تبقى من القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من التكلفة العالية في القطاع، بشرياً ومادياً، فإن تقويم الأرباح والخسائر في حرب لامتماثلة لا يُحتسب بهذه الطريقة التبسيطية، ولا يمكن تقويم نتائج تلك الحروب كما يتم تقويم الحروب التقليدية التي تحدث بين جيوش نظامية، حيث تقاس نتائجها بأعداد الجنود القتلى ومساحة الأرض المحتلة.
هذا بالإضافة إلى أن تقويم الأرباح والخسائر على المدى القصير في غزة لا يمكن أن يلغي الخسارة الاستراتيجية التي تتعرض لها “إسرائيل”، والتي يستمر في التحذير منها كل من الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، الذي حذّر إسرائيل من إبدال النصر التكتيكي بهزيمة استراتيجية.
ولعل أحد الأمثلة على الهزيمة الاستراتيجية الإسرائيلية هو تبدّل الرأي العام العالمي وصورة “إسرائيل” في العالم، والتي ارتبطت بأعمال القتل والتجويع والإبادة في غزة، وخصوصاً مع قرار محكمة العدل الدولية الابتدائي الذي وجد “معقولية” لادعاء جنوب أفريقيا على “إسرائيل” بأنها ترتكب “إبادة جماعية” في غزة، وأن الفلسطينيين يحتاجون إلى حماية، وأن على “إسرائيل” ان تلتزم ما تمليه عليه التزاماتها في “اتفاقية منع إبادة الجنس”، والصادرة عام 1951، والموقّعة عليها “إسرائيل”.
وإذا كان بعض العرب وداعمي “إسرائيل” في العالم يعتقد أنها غير معنية ولا تكترث لصورتها الدولية، فيمكن أن نشير إلى سابقة تعاملها مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379، المعتمد في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975، والذي أقرّ بأن “الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، والذي اتخذته الجمعية العامة بأغلبية 72 صوتاً في مقابل 35 صوتاً وامتناع 32 عن التصويت، وبحيث أتت أهمية ذلك القرار بعد إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في 21 كانون الأول/ديسمبر 1965، والتي بدأ نفاذها في 4 كانون الثاني/يناير 1969.
لم تستطع “إسرائيل” هضم هذا القرار غير الملزم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعملت دائماً على تقويض سمعة الأمم المتحدة والجمعية العامة التي اتخذت عدداً من القرارات التي دانت “إسرائيل” وانتصرت للقضية الفلسطينية، إلى أن وصل عام 1991، بحيث اشترطت “إسرائيل” أن يتم إلغاء القرار رقم 3379، قبل أن تقبل المشاركة في عملية السلام مع الفلسطينيين، والسير في مسار “أوسلو”.
وبناءً على الضغوط الأميركية وحاجة العالم إلى التقدم قُدُماً في مسار عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبحيث إن تبدل النظام العالمي وتغيّر الوضع الجيوسياسي في العالم فتحا نافذة للأمل بتحقيق مسار للسلام في الشرق الاوسط، تم إلغاء القرار المذكور بموجب القرار 46/86، والذي تم اعتماده في 16 كتانون الأول/ديسمبر 1991 بأغلبية 111 صوتاً في مقابل 25 صوتاً وامتناع 13 عضواً عن التصويت.
وكانت “إسرائيل” تسعى لإصدار قرار معاكس للقرار 3379، وواضح من حيث “الإقرار أن الصهيونية ليست شكلاً من أشكال العنصرية”، وحاولت كل السبل للوصول إلى صيغة واضحة في هذا المجال. وعلى الرغم من ذلك، فإنها عادت وقبلت – على مضض – النص القصير الذي فرضته الولايات المتحدة (التي هيمنت على الأمم المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي) والذي يتضمن عبارة واحدة “[الجمعية العامة] تقرر إلغاء التحديد الوارد في قرارها 3379 المؤرخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975”.
وعلى الرغم من أن القرار الجديد لم يذكر الصهيونية، وليس فيه إعلان صريح أن الصهيونية ليست شكلاً من أشكال العنصرية، فإن “إسرائيل” عدّته انتصاراً ونتيجة لحملة طويلة من العلاقات العامة والضغوط الدبلوماسية، التي مارستها الدول الغربية والولايات المتحدة و”إسرائيل” من أجل نقض القرار السابق.
على هذا الأساس، وعلى الرغم من أن المعركة العسكرية الجارية في غزة لم تنتهِ، وعلى الرغم من التكلفة البشرية العالية التي لحقت بالفلسطينيين، فإنه يمكن القول إن خسائر استراتيجية لحقت – وستلحق – بـ”إسرائيل” بعد هذه الحرب.
إن خسارة السمعة والصورة اللتين عملت “إسرائيل” طويلاً على تكريسها كـ “دولة ديمقراطية، وضحية” في الشرق الأوسط، ليست تفصيلاً في مسار “إسرائيل” في المنطقة والعالم، والقضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية (بغض النظر عن نهاياتها بعد أعوام) ليست بالأمر الذي يمكن لـ”إسرائيل” أن تتخطاه، والأصوات اليهودية في العالم، والتي ترفض استخدام “الهولوكست” لتبرير الإبادة في غزة… كلها خسائر متحققة منذ الآن، تضاف إلى ما سيترتب على هذه الحرب من أكلاف سياسية واقتصادية وعسكرية وانقسامات داخل “إسرائيل”.