كتاب المؤشر

ماذا كان وراء مقترح أولمرت الذي لم يوقعه الرئيس عباس عام 2008؟

المؤشر 05-11-2024 

بقلم: د.رفيق الحسيني

وما هي انعكاسات توقيع أولمرت بياناً مع د. القدوة على الموقف الفلسطيني اليوم؟

​أثار توقيع د. ناصر القدوة وزير خارجية السلطة الفلسطينية الأسبق على وثيقة مشتركة مع إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق لـ “العمل معاً لتحقيق السلام بالشرق الأوسط” بعض الاهتمام العربي والأوروبي، أما رد الفعل الاسرائيلي والأمريكي فكان محدوداً جداً. والسبب الأساسي في ذلك الاكتراث المتواضع (أو حتى عدم الاكتراث) لهذه الوثيقة”المُتجددة”… أنها تأتي اليوم من شخصين أصبحا خارج دوائر القرار السياسي في بلديهما، ولم يعودا طرفين “مُتنفذين” في اسرائيل وفلسطين.

كان أولمرت قد صرّح في العديد من المناسبات، بما معناه أنه سبق وعرض المقترح على الرئيس محمود عباس في سبتمبر 2008 عندما كان رئيساً لحكومة اسرائيل، ولكن أبو مازن تردد في قبوله، فأضاع “فرصة ذهبية” لاقامة دولة فلسطينية على الغالبية العظمى من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.

وقد استمرت بعض الدوائر الاعلامية في اسرائيل، ومن ورائها منصات الاعلام المُنحازة في أمريكا وأوروبا، بين حين وآخر في ترديد أن الرئيس الفلسطيني كرر في العام 2008 ما فعلته قيادات فلسطينية من قبله من “عدم تفويت فرصة لتفويت فرصة Never miss an opportunity to miss an opportunity” حسب تلك العبارة المخادعة التي وصف بها وزير الخارجية الاسرائيلي الأسبق أبا إيبان الزعماء الفلسطينيين (والعرب) الذين رفضوا التطبيع.

وفي مقابلة لكريستيان أمانبور مع القدوة وأولمرت على شبكة الـ س.ن.ن. قبل أيام معدودة، عادت أمانبور بالحديث عن مقترح أولمرت للرئيس عباس وبأن الأخير رفض المقترح، الأمر الذي علق عليه أولمرت بالقول “لا يوجد خطة أفضل مما قدمتها لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في 2008″، وعلّق د. القدوة بالقول أن أبو مازن “لم يرفض الاقتراح ولكنه لم يوافق عليه”، مما أثار ضحكاتمسموعة من قبل أولمرت وأمانبور!

ولذلك، كوني أحد “شهود الواقعة”، أجد من الضرورة توضيح ما حقيقة حدث بين أولمرت وعباس في سبتمبر من العام 2008، ولماذا لم تتقدم عملية السلام على ضوء مقترح أولمرت آنذاك؟

في نوفمبر 2005، كان إيهود أولمرت يتبوء منصب نائب رئيس الحكومة الاسرائيلية ونائب رئيس حزب “كديما” ، وهو تجمع اخترعه رئيس الوزراء أرئيل شارون بعدما ضاق ذرعاً بحزبه السابق “الليكود” والمقارعين له داخل الحزب وعلى رأسهم بنيامين نتانياهو، الذي رفض فكرة شارون بإخلاء المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة، مُعتبراً ذلك تنازلاً خطيراً عن “أرض اسرائيل” (تماماً كتوقيع اسحق رابين على اتفاق أوسلو)، فقرر شارون الانشقاق عن الليكود وتشكيل حزب جديد أسماه كديما، وانضم إليه حينها عددمن أعضاء الكنيست والسياسيين أمثال ايهود أولمرت وتساحي هنجبي وتسيبي ليفني وشاؤول موفاز من الليكود، وشمعون بيريس وحاييم رامون ودالية إيتسيك من حزب العمل وغيرهم. وقد استمر شارون في رئاسة الحكومة الاسرائيلية بحزبه الجديد لمدة شهر ونصف إلى أن أصيب بجلطة دماغية حادة غير معروفة الأسباب في بداية يناير 2006 أفقدته الوعي، فكان مصيره كاسحق رابين!

إثر دخول شارون في غيبوبة، تسلم ايهود أولمرت رئاسة حزب كديما والحكومة. وقد اختلف أسلوب اولمرت عن شارون في التعامل مع الفلسطينيين … فشارون كان شخصاً متعجرفاً وفظاً مع القيادات الفلسطينية معتبراً إياهم أقرب إلى البدو الرُحل وبالتالي ليس لهم أي حق في “أرض الميعاد”، وترحيلهم إلى غزة أو إلى البلاد المجاورة هو الحل الأمثل، بل الوحيد. أما أولمرت، فقد كان يتعامل مع القيادات الفلسطينية باحترام أكثر، ويمكن أن السبب في ذلك يعود إلى اختلاط أولمرت مع الفلسطينيين وتفهم موقفهم واصرارهم، وبخاصة عندما كان رئيساً لبلدية القدس لأكثر من عشر سنوات بين 1993-2003.

خلال العام الأول من حكمه (2006) اضطر أولمرت إلى مواجهةحركة حماس بسبب اختطاف الجندي شاليط على حدود غزة في يونيه 2006، ثم دخول حرب مع حزب الله بسبب خطف جنود اسرائيليين على الحدود اللبنانية في يوليه 2006، ولكنه لم يستطع تحقيق أي نتائج ايجابية على أي من الجبهتين، بل على العكس.

وخلال عامي 2007 و2008، ورغم أن أولمرت لم يُحرك ساكناً خلال المعارك التي نشبت بين فتح وحماس في غزة (يونيه 2007) مُتبعاً مبدأ “فخار يكسّر بعضه” [كان تحقيق الانقسام بين غزة والضفة سيناريو اساسي وهدف استراتيجي لشارون وتياره المؤيد للانسحاب أحادي الجانب من غزة] إلا أنه قرر انتهاج سياسة مغايرة لشارون تجاه السلطة الفلسطينية، فأخذ يتجاوب مع الرئيس الفلسطيني في بعض القضايا الملّحة للجانب الفلسطيني التي طالب الأخير بحلها خلال عدد من الاجتماعات التي تمت بينهما، منها منح هويات فلسطينية لحوالي 50 ألف فلسطيني كانوا مقيمين في الضفة بشكل غير قانوني، والافراج عن اموال الضرائب المجمدة لدى اسرائيل منذ تسلم حماس زمام الحكومة، واطلاق سراح حوالي 750 أسير فلسطيني من حركة فتح.

وفي 30/7/2008، أي قبل شهرين من الاجتماع الأخير مع الرئيس عباس، أعلن أولمرت عن استقالته من منصبه كرئيس لحكومة اسرائيل حال انتخاب خليفة له لرئاسة حزب “كديما” الحاكم، وذلك على ضوء قضايا فساد اُتهم بها. وبعد شهر ونصف، في 16/9/2008، وقبيل الانتخابات الداخلية لحزب كديما بيوم واحد، والتي كانت تعني تنحّيه نهائياً عن رئاسة الحكومة الاسرائيلية، دعا اولمرت الرئيس عباس إلى لقاء مسائي في منزله في القدس. وبينما اصحب أبو مازن رئيس دائرة المفاوضات المرحوم د. صائب عريقات ورئيس ديوان الرئاسة (كاتب المقال)، جلس أولمرت وحيداً في الاجتماع، فقد استقال رئيس ديوانه في يوليه 2008، ولميحضر شالوم ترجمان، العضو الآخر في فريق التفاوض الاسرائيلي، بينما كان مستشاره الاعلامي مارك ريغيف (الذي أصبح سفيراً في لندن فيما بعد) يحوم في مكان الاجتماع بهدف اصدار بيان صحفي إن دعت الحاجة…

رغم النقاشات الساخنة التي تخللتها اجتماعات الرئيس عباس السابقة مع أولمرت، ورغم أن قضية الجندي شاليط الذي أسرته كتائب القسام عام 2006 كانت موضوع الساعة بالنسبة للحكومة الاسرائيلية وقيد التفاوض مع حركة حماس، ألا أن اجتماع 16/9/2008 حمل طابعاً وداعياً، حيث كان الطرف الفلسطينييعي بأن ذلك اللقاء سيكون الأخير… فانتخابات حزب كديما كانت ستُجرى في اليوم التالي، وتسيبي ليفني المرشحة الأقوى للفوز بها في مواجهة شاؤول موفاز.

وقبيل انتهاء الاجتماع، طلب أولمرت من الرئيس أبو مازن أن يذهبا لوحدهما إلى مكتبه المجاور للحديث، وانتظر باقي الوفد في الصالون. وبعد ما يزيد عن الساعة والنصف، عاد الرئيسان من خلوتهما، فاتجه الوفد الفلسطيني نحو السيارة التي أقلته إلى رام الله. وخلال الرحلة القصيرة لم يفاتح الرئيس الوفد المرافق بخصوص اجتماع “الأربع عيون” مع اولمرت ولكنه بدا وكأنه يحاول أن يتذكر كل ما سمعه أو شاهده في الغرفة المغلقة.

وما أن وصل إلى مكتبه في المقاطعة حتى شرح الرئيس للمتواجدين ما حصل خلال اللقاء المغلق… فقد أخرج أولمرت من أحد الأدراج خريطة للضفة الغربية وقطاع غزة، رُسمت عليها خطوط مُتعرجة بألوان مختلفة، حددت اقتطاعات من الضفة الغربية لصالح المستوطنات الاسرائيلية وطريق “ممر آمن” بين غزة والضفة،وشرح للرئيس الخطوط العريضة لاقتراحه إقامة دولة فلسطينية مستقلة (منزوعة السلاح) كما يلي:

– اقتطاع 6-7% من أراضي الضفة التي بنيت عليها الكتلالاستيطانية الرئيسية ومبادلتها بأراضي داخل الخط الأخضر (بما فيها أراضي النفق الذي سيصل غزة بالضفة) حسب الخريطة،

– بقاء كافة المستوطنات المحيطة بالقدس الشرقية تحت السيادةالاسرائيلية مع ايجاد حل دولي للقدس القديمة و”للحوض المقدس” التي يحيط بها (أي معظم أراضي القدس الشرقية التي تم احتلالها عام 1967) ضمن بلدية مشتركة ومجلس وصاية مكون من اسرائيل وفلسطين والأردن والسعودية والولايات المتحدة.

– فيما عدا عودة رمزية لخمسة آلاف، لن يكون هناك ممارسة فعلية لحق اللاجئين بالعودة حسب قرارات الأمم المتحدة.

بعد ذلك العرض السريع، طلب أولمرت من الرئيس عباس التوقيع المشترك على تلك الخريطة التي سوف تمثل الأساس لحل دائم وشامل… ولكن الرئيس عباس، الذي لم يرد التوقيع بدون دراسة وافية للمقترح، أخذ يتفحص الخريطة المُعقدة وخطوطها التي “تتلوى كالأفعى” حسب وصف الرئيس بوش لجدار الفصل، مُبلغاً أولمرت أنه يحتاج إلى نسخة منها لتدارسها مع فريقهوزملائه في القيادة … إلا أن أولمرت أصر على ضرورة التوقيع الفوري على تلك الخريطة قبل توزيعها، بحجة أنه بدون توقيع فلسطيني عليها سيعتبرها منافسيه الاسرائيليين تنازلاً من جهته بدون مقابل… ولما لم يُبد ابو مازن موافقته على التوقيع، امتنع اولمرت عن تسليمه الخريطة طالباً منه ان يتفحصها ويحاول حفظ تفاصيلها إن أراد مناقشتها مع فريقه، وأن يرد عليه بأسرع فرصة ممكنة وخلال أيام معدودة إن رغب بالتوقيع.

بعد الاستماع إلى ما دار بين الرئيسين في الغرفة المغلقة، تلخص رأي المجتمعين كما يلي:

(1) لا يمكن للرئيس التوقيع على خريطة تشمل “حل دائم وشامل” ما لم يتم رؤيتها ونقاشها من قبل الخبراء في الجانب الفلسطيني والقيادة الفلسطينية،

(2) كان اولمرت قد أعلن عن تقديم استقالته منذ شهرين … وفي الغد (أي اليوم التالي) بعد انتخابات حزب كديما، سيصبح خارج الحكم وقد يأتي رئيس حكومة جديد يرفض الاعتراف بخطته، ويكون أبو مازن قد تنازل – ولو نظرياً – عن أجزاء من الضفة والقدس الشرقية بلا مقابل.

(3) إن أحد أسباب اصرار أولمرت على توقيع الخريطة هو معاناته في المحاكم الاسرائيلية على خلفية مجموعة من قضايا الفساد (التي أدين جرائها فيما بعد) وبأنه بطرح وتوقيع “مبادرة سلام” مع الفلسطينيين حتى ولو بالأحرف الأولى، يستطيع أن يتهم منافسيه في اليمين الاسرائيلي (نتانياهو وغيره) بترتيب تهم الفساد له لاخراجه من الساحة السياسية بسبب جنوحه للسلم مع الفلسطينيين، ولو بطريقة مختلفة عن “إخراج” اسحق رابين!

(4) أما السبب الرئيسي والأهم لضرورة عدم توقيع الرئيس عباس على خريطة أولمرت فكان أن الموافقة على مبادرة أولمرت ستعتبر تراجعاً فلسطينياً رسمياً عن مبادرة السلام العربية المُقرة في القمة العربية في بيروت عام 2002 وكسراً للإجماع العربي والاسلامي حولها … مما سيّجر بالضرورة إلى تنازلات من دول عديدة كانت تنتظر تراجع الفلسطينيين عن المبادرة العربية.

ولذلك، ولهذه الأسباب، قرر الرئيس عباس الالتزام بالمبادرة العربية للسلام وعدم التوقيع على خريطة أولمرت – لا في ذلك اليوم ولا في أي يوم آخر… علماً أن الأمريكان حاولوا الضغط عليه خلال زيارته إلى نيويورك لحضور الجمعية العام للأمم المتحدة في نهاية سبتمبر 2008، حيث كان الرئيس بوش الإبن، الذي كانت فترة رئاسته الثانية ستنتهي بعد أشهر، يطمح في تحقيق نوع من “الاختراق المعنوي” في مسألة الشرق الآوسط وبخاصة بعد أن كان قد صرح في العام 2003 أنه قد تسلّم توجيهاً إلهياً بأن عليه”أن يحقق الأمن لدولة اسرائيل ويقيم دولة للفلسطينيين” (ولكن بدون توضيح إلهي أو بشري لحدود الدولتين)!

وفي اليوم التالي لاجتماع أولمرت مع الرئيس عباس،17/9/2008، وكما كان متوقعاً تم انتخاب تسيبي ليفني رئيسة لحزب كديما بدلاً من أولمرت، فقدّم الأخير استقالته رسمياً إلى رئيس الدولة في 21/9/2008، ولكنه استمر رئيساً مؤقتاً للوزراءكـ”بطة عرجاء” حسب التعبير الأمريكي [أي رئيس ينتظر التنّحي ولا يملك في الوقت نفسه حق اتخاذ قرارات مصيرية كابرام صفقة مع الفلسطينيين]، ريثما تتمكن ليفني – من ناحية اجرائية وقانونية – من تشكيل حكومة جديدة. ولكن الأخيرة لم تستطع عمل ذلك بسبب عدم حصول حكومتها الجديدة على تأييد غالبية في الكنيست الاسرائيلي، فطلبت ليفني من رئيس الدولة شمعون بيريس الدعوة لانتخابات جديدة في فبراير 2009 واستمر أولمرت بالعمل كبطة عرجاء. ورغم حصول كديما على أكبر عدد من النواب في الكنيست الجديد (29 عضواً)، إلا أن ليفني لم تستطع تشكيل حكومة تتمتع بأغلبية في المجلس، ولذلك دعا الدولة بيريس رئيس حزب الليكود نتانياهو إلى تشكيل حكومة، وقد نجح الأخير في ذلك بعد أن أقنع مجموعة من الأحزاب الدينية المتطرفة، فقدم اولمرت استقالته رسمياً في مارس 2009.

والجدير بالذكر أن الرئيس عباس عاد فالتقى بأولمرت مرة أخرى في نيويورك في فبراير 2020 (وكان الأخير قد خرج من السجن في العام 2017 بعد أن حكم عليه بالسجن 27 شهراً بتهم فساد) وعقد الاثنان مؤتمراً صحفياً أكد الرئيس الفلسطيني خلاله رفض خطة الرئيس ترمب ( المعروفة بصفقة القرن) مُبدياَ لأولمرت استعداده “لاستئناف المفاوضات حيث تركناها معك … تحت مظلة اللجنة الرباعية وليس على اساس خطة الضم واضفاء الشرعية على المستوطنات وتدمير حل الدولتين” التي حاول ترمب تسويقها.وبالطبع لم يسفر ذلك اللقاء عن أية نتائج عملية، لأن أولمرت لم يعديلعب أي دور سياسي.

والآن – بعد 16 عاما – يعود مشروع أولمرت من جديد في اطار وثيقة أولمرت – القدوة … وهو نفس ما طرحه في العام 2008 تقريباًمن ناحية القدس واللاجئين، إلا أن مساحة الأرض المقضومة من الضفة لصالح كتل المستوطنات يبدو أنها أصبحت أقل من 5%،وهناك ايضاحات إضافية لبعض النقاط الأخرى…

ولو سألني د. ناصر القدوة – وهو زميل نضال طويل اعتززت بالعمل معه – بخصوص رأيي في توقيع وثيقة مشروع السلام مع أولمرت، لنصحته أيضاً بألا يوقع … فايهود أولمرت اليوم لا يتمتع بأية قيمة سياسية في بلده بسبب إدانته بتهم فساد في المحاكم … ولو كان د. ناصر في موقع القرار السياسي لما وقّع، ومع أنه اليوم ليس في موقع القرار، إلا أن ذلك بسبب خلاف سياسي وليس بسبب ارتكاب جريمة أو جناية، وهناك قول انكليزي مأثور في العمل السياسي وهو “لا تقل أبداً أبداً” (Never say never) ولذلك ليس من المستحيل أن تؤدي مصالحة شاملة مبنية على “قانون المحبة” الفتحوي إلى تصفية الأجواء وإعادة الوئام بين الأطراف المتنازعة(الفتحوية وغير الفتحوية) ضمن إطار المصلحة الوطنية الفلسطينية.

إن توقيع البيان المشترك مع أولمرت لن يوقف الحرب الهمجية على غزة ولا هجمات المستوطنين العنصرية على الضفة، بل يمكن أن يصعّدها … وسيخلق أساساً لاشكالية سياسية وهي أن هذا التوقيع يمكن أن يُفهم على أنه تراجع عن مبادرة السلام العربية وكسر للإجماع العربي والاسلامي والدولي حولها! ويمكن أن يُستغل ذلك لتثبيت تنازلات – تمت أو سوف تتم – من دول تنتظر بفارغ الصبر تراجع الفلسطينيين عن المبادرة العربية للسلام…

ولذلك فمن رأيي أن على كافة الأطراف الفلسطينية الوطنيةألا تتراجع (حتى نظرياً) عن المبادرة العربية المُتخذة في مؤتمر القمة العربي في بيروت عام 2002، والتي طالبت بالانسحاب الاسرائيلي من كافة الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية وايجاد حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين … وأن على الأطراف الفلسطينيةالحفاظ على مكونات المبادرة العربية اليوم بكافة السبل الممكنة، لأنها تمثل – في هذه الظروف الصعبة – الحد الأدنى المُتفق عليه عربياً وإسلامياً ودولياً. فإذا ما سقطت المبادرة العربية للسلام سقط ما تبقى من الاجماع العربي والاسلامي، ويصبح سقف الدولة الفلسطينية (إن أقيمت) اقل بـ 5% أو 20% أو حتى 60% من حدود الخامس من يونيه عام 1967، وبدون سيادة على القدس ومقدساتها الاسلامية والمسيحية، وبدون اجلاء للمستوطنين، وبدون أي عودة لللاجئين!

ورغم أن المبادرة العربية للسلام تمثل أقل بكثير من المطالب التي على أساسها انطلقت حركة فتح في عام 1965 وتبعتها الجبهة الشعبية عام 1967 والديمقراطية عام 1968 وحماس عام 1987 والعديد من تنظيمات المقاومة الفلسطينية المنضوية (أو غير المنضوية) تحت إطار م.ت.ف.، إلا أنها تمثل حلاً يستطيع الشعب الفلسطيني التعايش معه ضمن الوضع الصعب – ولكن غير المئيوس منه – الذي يمر فيه! فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس كما كان الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل يردد بعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 والذي استمر لمدة 74 سنة حتى الجلاء عام 1956.

وهذا لا يعني أبداً قبول الشعب الفلسطيني بـ “الواقعية” المفروضة عليه ونبذ “العاطفية” التي يدّعى من يدعّي أنها جلبت عليه المآسي والمصائب … فلو كانت الواقعية السياسية وحدها هي التي تسيّر الشعب الفلسطيني لحسبها واستسلم فور صدور وعد بلفور عام 1917 … ولولا العواطف نحو الوطن السليب لما ناضل الشعب ضد الانتداب منذ بدايته في العام 1920 وقاتل أبناؤه في هبة النبي موسى والبراق وثورة فلسطين الكبرى أعوام 1936-1939وجيش الجهاد المقدس … لولا تلك العواطف الوطنية لما انطلقت فتح عام 1965 وتبعتها العديد من المنظمات ولما كان الصمود في الكرامة وفي جنوب لبنان ولما انتفض المواطن في غزة والضفة واستشهد القادة الواحد تلو الآخر … فالشعب تمسك بوطنه ليس بسبب “واقعيته” إنما بسبب “عواطفه” الجياشة التي صبّرته على التضحية الجبارة والصمود الاسطوري! فالواقعية السياسية لا يجب أن تمس أو تؤذي – من قريب أو بعيد – الشعور العاطفي نحو الوطن … هذا الشعور الذي هو أساس الكرامة الوطنية التي يقاتل المواطن الفلسطيني كل يوم كي لا تُهان…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى