“فورين بوليسي”: دفاع البيت الأبيض عن “إسرائيل” يقوّض القانون الدولي
المؤشر 21-09-2024 مجلة “فورين بوليسي” الأميركية تنشر مقالاً للكاتبة سارة ليا ويتسون، تتحدّث فيه عن كيفية قيام الولايات المتحدة بتقويض النظام الدولي من خلال رفض تنفيذ أحكام المحكمة الجنائية الدولية بحقّ “إسرائيل”.
وجّهت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، ضربة قوية للنظام الدولي القائم على القواعد خلال محادثات مجلس العلاقات الخارجية الأسبوع الفائت. ورداً على سؤالي حول ما إذا كانت الحكومة الأميركية ستلتزم بأوامر محكمة العدل الدولية بوقف مساعدتها لـ”إسرائيل” بسبب احتلالها غير القانوني وأوامر الاعتقال المتوقّعة من المحكمة الجنائية الدولية بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، اللذين وجّهت إليهما المحكمة الجنائية الدولية لائحة اتهامات، أكدت السفيرة أنّ الولايات المتحدة لن تمتثل لأيّ أمر قضائي لأنها تواجه “مشكلة مع حكم المحكمة”. وقالت: “فلنكن صريحين، لن نسمح باعتقال نتنياو”.
وفي حين أنّ الولايات المتحدة ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فهي غير ملزمة بالامتثال لأوامر الاعتقال الصادرة عنها، فقد أبدت واشنطن تعاونها عندما استهدفت المحكمة الجنائية الدولية خصوم الولايات المتحدة. وعندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد مسؤولين من دول أخرى غير أعضاء في المحكمة، أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوداني السابق عمر البشير، رحّبت الحكومة الأميركية بهذه القرارات وحثّت على التعاون مع المحكمة. كما رحّب الرئيس الأميركي جو بايدن بمذكّرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحقّ بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا وأمر الحكومة الأميركية بتبادل المعلومات حول جرائم الحرب الروسية المحتملة مع المحكمة.
وذهب الكونغرس إلى حد إلغاء الأحكام الواردة في القوانين الأميركية التي تحظر التعاون مع تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية على الأقل في ما يتعلّق بأوكرانيا، وأصدر قراراً يثني على المدّعي العام لحصوله على مذكّرة التوقيف. وعلّق السيناتور الجمهوري الأميركي ليندسي غراهام قائلاً إنّ “مذكّرة الاعتقال هذه مهمة للغاية باعتبارها إجراء اتخذته هيئة دولية قائمة على الأدلة ستقف أمام اختبار الزمن”.
في المقابل، اتخذ غراهام لهجة مختلفة تماماً عندما وجّهت المحكمة اتهامات لمسؤولين إسرائيليين، واصفاً إياها بـ”الأفعال المشينة التي ارتكبتها المحكمة الجنائية الدولية ضدّ إسرائيل”، مؤكداً أنّه سيعمل بشكل محموم مع زملائه من الحزبين في كلا المجلسين لفرض عقوبات تُدين المحكمة الجنائية الدولية… وهاجم المدّعي العام نفسه.
وهذه ليست المرة الأولى التي ترفض فيها الدول التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. وحتى بعض الدول الأعضاء فشل في تنفيذ أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة، كرفض منغوليا اعتقال بوتين في وقت سابق من هذا الشهر عندما زار البلاد، أو فشل الأدن وجنوب أفريقيا في اعتقال البشير.
ويدلّ تصريح توماس غرينفيلد على أنّ الولايات المتحدة، وهي الجهة التي يفترض أن تكون مسؤولة عن تنفيذ النظام الدولي القائم على القواعد، تتعاون حالياً مع الدول التي تتجاهل أوامر المحكمة. وبالتالي، يؤدي هذا النوع من الخطابات التي يطلقها كبار المسؤولين الأميركيين إلى تقويض مكانة جميع المحاكم الدولية.
ولم تخفِ إدارة بايدن ازدراءها لقرار المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين. وفي 4 حزيران/يونيو، أقرّ مجلس النواب الأميركي مرة جديدة مشروع قانون لمعاقبة المدّعي العام، ورد 12 من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي لطلب المدعي العام بإصدار مذكّرات إحضار، بالقول: “استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم. وفي حال مضيتم قدماً… سنتحرّك لإنهاء كلّ الدعم الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية، وفرض عقوبات على موظفيكم وشركائكم، ومنعكم وعائلاتكم من دخول الولايات المتحدة. وقد أُعذر من أنذر”.
وتعدّ تعليقات توماس غرينفيلد الأولى من نوعها باعتبار أنّها صادرة عن مسؤول أميركي كبير أعلن فيها صراحة أنّ واشنطن ستتحدّى مذكّرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية. ولتبرير موقفها، أوضحت توماس غرينفيلد أنّ الولايات المتحدة “لديها تساؤلات” حول ممارسة المحكمة لسلطتها على “إسرائيل”، مشيرةً على الأرجح إلى رفض إدارة بايدن لفرض سلطة المحكمة على المواطنين الإسرائيليين. كما أكدت خطأً أنّ الولايات المتحدة قد بيّنت بالفعل عدم رغبتها في اعتقال نتنياهو عندما زار واشنطن في تموز/يوليو، ما يشير إلى أنّ المحكمة قد أصدرت أوامر الاعتقال، رغم أنها لم تفعل.
ومع ذلك، فإنّ مسألة الاختصاص الإقليمي هي مسألة أصدرت المحكمة حكمها فيها عام 2021، من خلال رفضها حجج “إسرائيل” الواهية التي تطعن في الاختصاص القضائي، واعترافها بفلسطين كدولة عضو في المحكمة تتمتع بالأهلية القانونية لإحالة قضية على أراضيها إلى المحكمة، وإعادة تأكيدها سلطة المحكمة في ممارسة الولاية القضائية على مواطني الدول غير الأعضاء الذين يرتكبون جرائم في هذه المنطقة.
وحقيقة أنّ نتنياهو هو رئيس الحكومة في “إسرائيل” لا تجعله محصّناً من الملاحقة الجنائية الدولية. فقد سبق للمحكمة الجنائية الدولية أن رأت أنّ مثل هذه الحصانات الداخلية لا تتفوّق على مذكّرة الاعتقال الصادرة عنها، لأنّها قد تقوّض غرض المحكمة، بما في ذلك المادة 27 من نظام روما الأساسي، التي تنصّ على أنّ “جميع الأشخاص يخضعون للقانون من دون تمييز على أساس الصفة الرسمية
بالإضافة إلى ذلك، أوضحت المحكمة أنّ الامتثال لمذكّرة الاعتقال لا يعني إخضاع رئيس الدولة للمحاكمة الداخلية، وهو أمر تحظره قوانين الحصانة الداخلية، بل مجرد نقله إلى لاهاي للخضوع إلى المحاكمة الجنائية الدولية.
والأهم من ذلك، أنّ فكرة توماس غرينفيلد القائلة بأنّ الامتثال لأحكام المحكمة يُعدّ أمراً اختيارياً اعتماداً على ما إذا كانت الحكومة توافق على الحكم أم لا، تزيد من تقويض الأساس الذي تقوم عليه قدرة المحكمة الجنائية الدولية على العمل كمحكمة دولية تتمتع بسلطة إصدار قرارات ملزمة. ببساطة، تبعث واشنطن برسالة إلى العالم مفادها أنّها تحب المحكمة الجنائية الدولية عندما تحاكم أعداءها وتكرهها عندما تحاكم أصدقاءها.
وفي حين ألغت إدارة بايدن عام 2021 العقوبات الأميركية المفروضة على المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا وموظفيها وعائلاتهم والتي فرضتها عليهم إدارة ترامب لملاحقة إسرائيليين وأميركيين، لم تتوقّف عن الضغط على المدّعي العام الجديد كريم خان للتراجع عن موقفه. وقال خان إنّ “بعض القادة المنتخبين” أخبروه بأنّ المحكمة الجنائية الدولية “أُنشئت من أجل أفريقيا” و”المجرمين أمثال بوتين” وليس من أجل القادة الغربيين أو المدعومين من الغرب.
وقد واصل المسؤولون الإسرائيليون حملتهم المستمرة منذ تسع سنوات للتجسس على المدّعين العامّين الحاليين والسابقين ومضايقتهم والضغط عليهم وتشويه سمعتهم وتهديدهم في محاولة لعرقلة التحقيقات. وعليه، فإن هذه الهجمات على المحكمة في مواجهة أول محاكمة لحليف للولايات المتحدة هي التي دفعت عدداً من الدول الأفريقية إلى التهديد بالانسحاب من المحكمة، معتبرةً أنّها مجرد هراوة يمكن بها التغلّب على المعتدين الأفارقة، في حين لا تسمح لها أبداً بالتحرّك ضدّ حلفاء الولايات المتحدة.
وقد رفضت توماس غرينفيلد الإجابة عن السؤال حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستلتزم بالأوامر الصادرة عن محكمة العدل الدولية، التي تنظر في النزاعات بين الدول. فمبوجب حكم استشاري صدر مؤخراً، قضت محكمة العدل الدولية بأنّ احتلال “إسرائيل” للأراضي الفلسطينية يُعدّ غير قانوني، وأنّه يجب عليها إزالة قواتها ومستوطنيها من هناك وإلغاء عمليات ضم الأراضي غير القانونية.
وأمرت المحكمة الدول بعدم الاعتراف بأي أنشطة إسرائيلية غير قانونية، مثل عمليات ضم الأراضي (اعترفت إدارة ترامب بضم “إسرائيل” للقدس الشرقية ومرتفعات الجولان، وإدارة بايدن لم تتراجع عنها). والأهم من ذلك، أنّ المحكمة قالت إنّ الدول ملزمة “بعدم تقديم العون أو المساعدة في الحفاظ على الوضع الناجم عن الوجود الإسرائيلي غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة”.
وهذه مشكلة بالنسبة للحكومة الأميركية، في حال أرادت الانصياع لتوجيهات المحكمة التي هي عضو مؤسّس فيها، بموجب تصديق واشنطن على ميثاق الأمم المتحدة. وذلك لأنّ الولايات المتحدة تُعدّ أكبر جهة مساعِدة لـ”إسرائيل”، إذ قدّمت مساعدات عسكرية تزيد قيمتها عن 20 مليار دولار في عام 2024، وأكثر من ذلك في تراخيص بيع الأسلحة.
ونتيجة لذلك، فإنّ مثل هذه المساعدات لا تنتهك القوانين الأميركية التي تحظر تقديم الأسلحة إلى الدول التي تنتهك حقوق الإنسان فحسب، بل تنتهك أيضاً أمراً مباشراً صادراً عن محكمة العدل الدولية. وتجسّد تغريدة بعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة هذا الأسبوع، التي ذكرت أنها ستصوّت ضدّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المنتظر لتطبيق الرأي الاستشاري، إشارةً واضحة إلى أن الولايات المتحدة لا تملك أي نية للامتثال لقرار محكمة العدل الدولية.
وقد يتحوّل النقل المستمر للأسلحة الأميركية إلى “إسرائيل” مصدراً للاتهامات ضد الحكومة الأميركية في قضية احتلال محكمة العدل الدولية (فضلاً عن القضية المنفصلة التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا بشأن مزاعم الإبادة الجماعية ضدّ “إسرائيل”)، وضدّ المسؤولين الأميركيين الأفراد في قضية المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة المساعدة والتحريض على الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل”.
في عام 1996، ردّت وزيرة الخارجية آنذاك أولبرايت بشكل شائن على سؤال مقدّمة برنامج “60 Minutes” ليزلي ستال حول ما إذا كان “ثمن” العقوبات الأميركية على العراق، والتي تسبّبت في “مقتل نصف مليون طفل عراقي … وهو عدد يفوق عدد الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما” ” يستحقّ كلّ هذا العناء”، بالقول: “أعتقد أنه كان خياراً صعباً للغاية، لكننا نعتقد بأن الثمن يستحقّ ذلك”.
من المحزن والمثير للسخرية إلى حدّ ما أن نحصل على إجابة مشينة بالمستوى نفسه من توماس غرينفيلد، ما يسلّط الضوء، بعد 30 عاماً، على مواصلة استخدام الولايات المتحدة الانتقائي للغاية للقانون الدولي كهراوة سياسية ضدّ المعارضين، ولكن ليس ضدّ نفسها أو ضدّ حلفائها.
بطبيعة الحال، فإنّ الجانب السلبي لهذا النهج يتمثّل في عدم قدرة القانون الدولي، والمحاكم المسؤولة عن حمايته، على الصمود أمام الاعتداءات المستمرة للقوة العظمى الرائدة في العالم؛ وسيواصل انهياره على حساب جميع تلك المؤسسات القانونية الدولية التي من المفترض أن تخدمه، بمن في ذلك الأميركيون.