“أشعر بالملل فأُطلق النار” كيف يقتل الاحتلال المدنيين ويدمّر كل شيء في غزّة؟
تحقيق يتناول غياب قواعد إطلاق النار في حرب غزة، وكيف يقوم عناصر “الجيش” الإسرائيلي بإطلاق الرصاص بشكل عشوائي، ويحرقون المنازل، ويتركون الجثث في الشوارع، وكلّ ذلك بإذن من قادتهم.
مجلة “972+” و موقع “Local Call” الإسرائيليان ينشران أجراه الصحافي أورين زيف،
هناك غياب شبه كامل لقواعد إطلاق النار في حرب غزة، فعناصر “الجيش” الإسرائيلي يطلقون الرصاص بشكل عشوائي، ويحرقون المنازل، ويتركون الجثث في الشوارع، وكلّ ذلك بإذن من قادتهم.
وفي أوائل حزيران/يونيو، أظهرت مقاطع فيديو لحظة إطلاق جنود إسرائيليين النار على عدد من الفلسطينيين الذين كانوا يسيرون بالقرب من الطريق الساحلي في قطاع غزة، ما أدّى إلى مقتلهم في ثلاث حالات منفصلة. وفي كل حالة، بدا الفلسطينيون غير مسلّحين ولم يشكّلوا أي تهديد وشيك للجنود.
وتُعدّ مثل هذه اللقطات نادرة بسبب القيود الصارمة التي يواجهها الصحافيون في القطاع المحاصر والخطر المستمر على حياتهم. إلا أنّ عمليات الإعدام هذه، التي لا مبرّر أمنياً لها، تتطابق مع شهادات 6 جنود إسرائيليين تحدّثوا إلى مجلة “+972” و موقع “Local Call” الإسرائيليين، عقب تسريحهم من الخدمة الفعلية في غزة خلال الأشهر الأخيرة.
وتأكيداً لىشهادات شهود العيان والأطباء الفلسطينيين طوال فترة الحرب، صرّح الجنود بأنّه كان يسمح لهم بإطلاق النار على الفلسطينيين، بما في ذلك المدنيون، وفق رغبتهم.
وروى الجنود الستة، الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم باستثناء واحد منهم، كيف يقوم الجنود الإسرائيليون بإعدام مدنيين فلسطينيين بشكل روتيني لمجرّد دخولهم منطقة وصفها الجيش بأنّها “منطقة محظورة”. وترسم الشهادات صورة لمناظر مليئة بجثث المدنيين، التي تُترك لتتعفّن أو تأكلها الحيوانات الضالة؛ و”الجيش” يخفيها عن الأنظار فقط قبيل وصول قوافل المساعدات الدولية، حتى “لا تظهر صور الأشخاص في مراحل متقدّمة من التحلّل إلى العلن”.
كما شهد اثنان من الجنود على سياسة ممنهجة تتمثّل في إحراق منازل الفلسطينيين بعد احتلالها.
ووصفت عدة مصادر كيف أنّ القدرة على إطلاق النار من دون قيود أعطت الجنود وسيلة للترويح عن أنفسهم أو للتخفيف من الرتابة التي يشهدها روتينهم اليومي. وفي هذا الإطار، أشار “S”، وهو جندي احتياط خدم في شمالي قطاع غزة، قائلاً: “يرغب الجنود بتجربة الحدث بالكامل. وأنا شخصياً أطلقت بضع رصاصات من دون أي سبب وجيه في البحر أو على الرصيف أو في مبنى مهجور. وقد أبلغوا عن الأمر على أنّه إطلاق نار عادي، وهو الاسم الرمزي لعبارة أشعر بالملل، لذا أطلق النار”.
ومنذ الثمانينيات، رفض “الجيش” الإسرائيلي الكشف عن قواعد إطلاق النار، على الرغم من الالتماسات المختلفة المقدّمة إلى محكمة العدل العليا. ووفقاً لعالم الاجتماع السياسي ياغيل ليفي، “لم يعطِ الجيش الجنود قواعد اشتباك مكتوبة” منذ الانتفاضة الثانية، تاركاً الخيارات مفتوحة أمام الجنود وقادتهم في الميدان. وبالإضافة إلى مساهمتهم في مقتل أكثر من 38 ألف فلسطيني، اعترف الجنود بأنّ هذه التوجيهات المتساهلة كانت أيضاً مسؤولة جزئياً عن العدد الكبير من الجنود الذين قتلوا بنيران صديقة خلال الأشهر الأخيرة.
وقال “B”، وهو جندي آخر خدم في القوات النظامية في غزة لعدة أشهر، بما في ذلك في مركز قيادة كتيبته: “لقد مُنحنا الحرية الكاملة في كيفية التصرّف. فإذا كان هناك مجرّد شعور بالتهديد، لا داعي للتبرير، ما عليك سوى إطلاق النار”. وأردف قائلاً إنّه عندما يرى الجنود شخصاً يقترب، “يجوز لهم إطلاق النار على مركز كتلته (جسده)، وليس في الهواء. ويجوز إطلاق النار على الجميع، وحتى الفتاة الصغيرة أو الامرأة العجوز”.
واسترسل “B” في وصفه لحادثة وقعت في تشرين الثاني/نوفمبر، عندما أقدم الجنود على قتل عدد من المدنيين أثناء إخلائهم مدرسة قريبة من حي الزيتون في مدينة غزة، كانت بمثابة مأوى للفلسطينيين النازحين. وأمر “الجيش” الأشخاص الذين تم إجلاؤهم بالخروج إلى اليسار باتجاه البحر، وليس إلى اليمين، حيث يتمركز الجنود. إلا أنّه عند اندلاع اشتباك بالأسلحة النارية داخل المدرسة، تم إطلاق النار فوراً على أولئك الذين انحرفوا في الاتجاه الخاطئ وسط الفوضى التي تلت ذلك.
وقال “B” إنّه “عندما لاذ الناس بالفرار، وهرب بعضهم يساراً باتجاه البحر، وبعضهم الآخر يميناً، وبينهم أطفال، قُتل كلّ من اتجه إلى اليمين، ما بين 15 إلى 20 شخصاً، وتكدّست الجثث فوق بعضها البعض”.
الجنود يطلقون النار كما يحلو لهم
أفاد “B” بأنّه كان من الصعب التمييز بين المدنيين والمقاتلين في غزة، مدّعياً أنّ أعضاء حركة حماس غالباً ما “يتجوّلون من دون أسلحتهم”. وعليه، “كان كل رجل يتراوح عمره بين 16 و50 عاماً يُعدّ عنصراً من (المقاومة) بالنسبة إلينا”.
وتابع قائلاً: “يُمنع التجوّل وكل شخص في الخارج هو موضع شك. وإذا رأينا شخصاً ما ينظر إلينا من النافذة، فهو يُعدّ مشتبهاً به ونطلق عليه النار”.
وتتمثّل رؤية “الجيش” في أنّ أي اتصال مع السكان يعرّض القوات للخطر، ويجب خلق وضع يمنع فيه الاقتراب من الجنود تحت أي ظرف من الظروف. وقد تعلّم الفلسطينيون أنه عندما ندخل، عليهم بالفرار”.
وحتى في المناطق التي تبدو غير مأهولة أو مهجورة في غزة، شارك الجنود في عملية إطلاق نار مكثّف ضمن إجراء يُعرف باسم “إثبات وجود”. وشهد “S” بأنّ زملاءه الجنود “يطلقون النار كثيراً، حتى من دون أي سبب؛ وأي شخص يرغب في إطلاق النار، بغض النظر عن السبب، له ذلك”. وأشار إلى أنّه في بعض الحالات، كان الهدف من ذلك “إخراج الأشخاص من مخابئهم أو إثبات وجودهم
وأوضح “M”، وهو جندي احتياط آخر خدم في قطاع غزة، أنّ “مثل هذه الأوامر تأتي مباشرة من قادة السرية أو الكتيبة في الميدان. وعندما لا تكون هناك قوات أخرى تابعة “للجيش” في المنطقة تكون عملية إطلاق النار غير مقيّدة وبصورة مجنونة. ولا يقتصر الأمر على استخدام الأسلحة الصغيرة فحسب، بل يستخدمون الأسلحة الرشاشة والدبابات وقذائف الهاون أيضاً”، كما أقرّ بأن الجنود في الميدان يطبّقون القانون بأنفسهم.
وتذكّر “S” أنّه سمع عبر اللاسلكي عن جندي متمركز في مجمّع وقائي أطلق النار على عائلة فلسطينية كانت تتجوّل في مكان قريب.
وكان جندي واحد فقط ممن شملهم هذا التحقيق على استعداد للكشف عن هويته وهو يوفال غرين، جندي احتياط يبلغ من العمر 26 عاماً، خدم في “لواء المظليين 55” في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر من العام الماضي. وقّع غرين مؤخراً على رسالة تحمل توقيع 41 جندي احتياط يعلنون فيها رفضهم مواصلة الخدمة في غزة في أعقاب اجتياح “الجيش” لرفح. وقال غرين لمجلة “+972” و موقع “Local Call” إنّه “لم تكن هناك قيود على الذخيرة، وكان الجنود يطلقون النار للتخلص من الملل فحسب”.
بالإضافة إلى ذلك، ذكر غرين حادثة وقعت في إحدى الليالي خلال عيد “الحانوكا” اليهودي في كانون الأول/ديسمبر، عندما “أطلقت الكتيبة بأكملها النار معاً مثل الألعاب النارية، بما في ذلك ذخيرة التتبّع التي تولد ضوءاً ساطعاً. وأنتجت لوناً مجنوناً أضاء السماء، ولأنّ الحانوكا هو عيد الأنوار، أضحت هذه الحادثة رمزية”.
وأوضح “C” أنّ “الجنود يطلقون النار كما يحلو لهم، بكلّ ما أوتوه من قوة”. ولكن كما أشار “S”، فإنّ إطلاق النار غير المقيّد يعني أنّ الجنود غالباً ما يتعرّضون لخطر كبير من النيران الصديقة، التي وصفها بأنّها “أخطر من نيران حماس”، مضيفاً أنّه “خلال عدة مناسبات، أطلقت قوات الجيش النار باتجاه بعضها البعض”.
وحتى وقت كتابة هذا التقرير، قُتل 28 جندياً في غزّة على الأقل بنيران صديقة وفقاً لـ “الجيش”. وفي تجربة غرين، كانت مثل هذه الحوادث تُعدّ “القضية الأساسية” التي تعرّض حياة الجنود للخطر، حيث قال: ” كان هناك الكثير من النيران الصديقة؛ لقد دفعني ذلك إلى الجنون”.
وبالنسبة إلى غرين، أظهرت قواعد الاشتباك أيضاً لا مبالاة عميقة بمصير الأسرى. وقال: “لقد أخبروني عن تفجير الأنفاق، وقلت في نفسي إنّه إذا كانت هناك رهائن فيها فسيقتلونهم”. وهذا حدث عندما قتل جنود إسرائيليون في الشجاعية ثلاثة أسرى إسرائيليين كانوا يلوّحون بأعلام بيضاء في كانون الأول/ديسمبر.
وأكد “B” أنّه حتى بعد الحادث الذي وقع في الشجاعية، والذي قيل إنّه “مخالف لأوامر الجيش”، لم تتغيّر قواعد إطلاق النار. ويستذكر قائلاً: “لم تكن لدينا توجيهات محدّدة بالنسبة للأسرى”.
وقال غرين: “سمعت تصريحات جنود كُثر تفيد بأنّ الأسرى قتلوا، وليس أمامهم أي فرصة للنجاة، ويجب التخلّي عنهم. وهذا الأمر أزعجني أكثر من غيره… فقد كانوا يردّدون أنّ هدفهم هو إعادة الأسرى، لكن من الواضح أنّ الحرب تضرّ بالأسرى، وقد تبيّن لاحقاً مدى صحة هذا الأمر”.
يا لها من متعة
شهد “A”، وهو ضابط خدم في مديرية العمليات في “الجيش” أنّ غرفة عمليات سريّته، التي تنسّق عملية القتال من خارج غزة، وتصادق على الأهداف وتمنع النيران الصديقة، لم تتلقَ أوامر واضحة بإطلاق النار على الجنود الموجودين على الأرض. وقال في هذا السياق: “من لحظة دخولك، لن تكون هناك إحاطة في أي مرحلة، ولم نتلقَ تعليمات من القيادة العليا لتمريرها إلى الجنود وقادة الكتائب”.
وأشار إلى أنّ هناك تعليمات بعدم إطلاق النار عبر الممرات الإنسانية، ولكن في أماكن أخرى هناك غياب لأيّ توجيه آخر. وهذا هو النهج المتّبع.
وأوضح “A” أنّ إطلاق النار على “المستشفيات والعيادات والمدارس والمؤسسات الدينية ومباني المنظمات الدولية” يتطلّب الحصول على إذن من جهات أعلى. لكن من الناحية العملية، “أستطيع أن أحسب على أصابع اليد عدد الحالات التي طُلب منّا فيها عدم إطلاق النار. فحتى مع الموضوعات الحسّاسة مثل المدارس، تبدو الموافقة وكأنها مجرد إجراء شكلي”.
وتابع قائلاً: “كانت الروح السائدة في غرفة العمليات كالآتي: “أطلقوا النار أولاً، ثم اطرحوا الأسئلة لاحقاً. وأجمع الكل على أنه لن يذرف أحد دمعة إذا قمنا بتسوية منزل بالأرض من دون الحاجة إلى فعل ذلك، أو إذا أطلقنا النار على شخص لم نضطرّ إلى إطلاق النار عليه”.
وقال “A” إنّه على علم بحالات أطلق فيها جنود إسرائيليون النار على مدنيين فلسطينيين دخلوا منطقة عملياتهم، بما يتفق مع تحقيق صحيفة “هآرتس” في “مناطق القتل” في مناطق غزة الواقعة تحت احتلال “الجيش” الإسرائيلي، موضحاً: “رصدنا شخصاً في النافذة، فأطلقوا النار عليه وأردوه قتيلاً”. وأضاف أنّه في كثير من الأحيان لم يكن من الواضح من التقارير ما إذا كان الجنود قد أطلقوا النار على مسلّحين أو مدنيين عُزل
وبالتالي، فإنّ هذا الغموض بشأن هوية الضحايا يعني أنه بالنسبة لـ “A” أنّه لا يمكن الوثوق بالتقارير العسكرية حول عدد القتلى من أعضاء “حماس”.
وأردف قائلاً: “لقد تمثّل هدفنا في إحصاء عدد الإرهابيين الذين قتلناهم اليوم، وكلّ جندي يريد أن يظهر أنّه الرجل القوي. وكان التصوّر السائد أنّ جميع الرجال كانوا إرهابيين.
هذا وتتطابق شهادة “A” مع تقرير صدر مؤخراً عن موقع “ماكو” الإسرائيلي، حول ضربة جوية نفّذتها إحدى الكتائب بواسطة طائرة مسيّرة وأدّت إلى مقتل فلسطينيين في منطقة عمليات كتيبة أخرى. وتشاور ضابطان من كلا الكتيبتين بشأن لصالح من يجب أن تُسجّل عملية القتل.
وخلال الأسابيع الأولى التي تلت 7 تشرين الأول/أكتوبر، تذكّر “A” أنّ “الجنود كانوا يشعرون بالذنب الشديد لأنّ الهجوم قد وقع أمام أعينهم”. ووفقاً له، عندما تقوم الطائرات المسيّرة ببثّ لقطات حية للهجمات في غزة، “تمتلئ غرفة العمليات بالبهجة والفرح. وعندما يتهاوى مبنى من حين لآخر… يكون الشعور: يا له من جنون، يا لها من متعة”.
ولفت “A” إلى أنّ المفارقة تتمثّل في أنّ جزءاً من دوافع دعوات الإسرائيليين للانتقام هو الاعتقاد بأنّ الفلسطينيين في غزة ابتهجوا بالموت والدمار في 7 أكتوبر. ولتبرير التخلّي عن التمييز بين المدنيين والمقاتلين، كان الإسرائيليون يقولون إنّ “الفلسطينيين وزّعوا الحلوى يوم 7 أكتوبر، أو رقصوا.. “، كما اعتقد عدد كبير منهم بأنّ الطفل الفلسطيني اليوم هو إرهابي في الغد.
وعن تجربته في غرفة العمليات، قال “A”: “أنا أيضاً نسيت بسرعة كبيرة أنّ هذه منازل حقيقية في غزة. وشعرت وكأنها لعبة إلكترونية. إلّا أنّه بعد مرور أسبوعين فقط، أدركت أنّ هذه مبانٍ حقيقية تتهاوى؛ فإذا كان هناك سكان بداخلها، تنهار المباني على رؤوسهم، وإن لم يكن كذلك، فسيتهاوى كل ما بداخلها”.
رائحة موت فظيعة
شهد الكثير من الجنود على أنّ سياسة إطلاق النار المتساهلة مكّنت الوحدات الإسرائيلية من قتل مدنيين فلسطينيين حتى عندما تمّ التعرّف إليهم مسبقاً. وقال “D”، وهو جندي احتياط، إنّ كتيبته تمركزت بالقرب من ممرين للسفر “الإنساني”، أحدهما تابع لمنظمات الإغاثة والآخر للمدنيين الفارين من شمالي القطاع إلى جنوبه. ووضعوا داخل منطقة عمليات كتيبته سياسة “خط أحمر وخط أخضر” لتحديد المناطق التي يُحظر على المدنيين دخولها.
ووفقاً لـ”D”، فقد سُمح لمنظمات الإغاثة بالسفر إلى هذه المناطق بالتنسيق المسبق، لكن الأمر كان مختلفاً بالنسبة للفلسطينيين. وقال: “أيّ شخص يعبر إلى المنطقة الخضراء سيصبح هدفاً محتملاً”، مدّعياً أنّ هذه المناطق تتضمّن علامات لإرشاد للمدنيين، و”في حال تجاوزوا الخط الأحمر، تبلّغ عن ذلك عبر اللاسلكي ولا تحتاج إلى انتظار الإذن لإطلاق النار”.
ومع ذلك، قال “D” إنّ المدنيين يأتون في كثير من الأحيان إلى المناطق التي تمرّ بها قوافل المساعدات بحثاً عن بقايا الطعام التي قد تتساقط من الشاحنات؛ ورغم ذلك، كانت السياسة المتّبعة إطلاق النار على أي شخص يحاول الدخول إلى هذه المناطق. وأضاف: “من الواضح أنّ المدنيين لاجئون، وهم يائسون ولا يملكون أي شيء ومع ذلك تمّ إطلاق النار عليهم
وشهد الجنود أنّ جثث الفلسطينيين الذين يرتدون ملابس مدنية بقيت متناثرة في جميع أنحاء القطاع على طول الطرق والأرض المفتوحة. وقال “S”، وهو جندي احتياط: “لقد كانت المنطقة بأكملها مليئة بالجثث. وكانت هناك أيضاً كلاب وأبقار وخيول نجت من القصف ولم يعد لديها مكان تذهب إليه. لا يمكننا إطعامها، ولا نريدها أن تقترب كثيراً أيضاً. لذلك، أحياناً ترى كلاباً تتجوّل حاملةً أجزاء متعفنة من الجثث، وتفوح منها رائحة موت فظيعة”.
وأشار “S” إلى أنّه قبل وصول قوافل المساعدات الإنسانية، كانت تتمّ إزالة الجثث، مفسّراً: “تنزل جرّافة من طراز D-9 ومعها دبابة، وتقوم بتطهير المنطقة من الجثث وتدفنها تحت الأنقاض، وتقلبها جانباً حتى لا تراها القوافل؛ وبذلك، لا تظهر صور الأشخاص في مراحل متقدّمة من التحلّل إلى العلن”.
وأضاف: “لقد رأيت الكثير من المدنيين الفلسطينيين، عائلات ونساء وأطفالاً. كنا في منطقة صغيرة وهناك وفيات أكثر مما تم الإبلاغ عنه. فكل يوم، يُقتل ما لا يقل عن واحد أو اثنين من المدنيين، لأنهم كانوا يسيرون في منطقة محظورة على الرغم من أنّهم لم يكونوا يحملون سلاحاً”.
علاوة على ذلك، قال غرين إنّه عندما وصلنا إلى خان يونس في نهاية كانون الأول/ديسمبر “رأينا كتلة غير واضحة خارج أحد المنازل. فأدركنا أنّها جسد. رأينا ساقاً أكلتها القطط”.
كما أفاد مصدر غير عسكري تحدّث إلى مجلة “+972” وموقع “Local Call” بعد زيارته شمالي قطاع غزة، بأنّه رأى جثثاً متناثرة في جميع أنحاء المنطقة، قائلاً: “رأينا بالقرب من المجمّع العسكري بين شمالي وجنوبي قطاع غزة، جثثاً مصابة بطلقات في الرأس، برصاص قنّاص على ما يبدو، أثناء محاولتها العودة إلى الشمال. وكانت الجثث متحللة والكلاب والقطط تحوم حولها”.
وعن الجنود الإسرائيليين الموجودين في غزة، قال “B”: “إنّهم لا يكترثون للجثث. وإذا كانت موجودة في الطريق، يتم نقلها إلى جانب الطريق؛ ولا يتم دفنها، بل يدوسون عليها”.
وخلال الشهر الفائت، أدلى غي زاكين، الجندي الذي كان يدير جرّافات “D-9” في غزة، بشهادته أمام لجنة في الكنيست قائلاً إنّه وطاقمه “دهسوا مئات الغزيين، الأحياء منهم والأموات”. وانتحر جندي آخر خدم معه في ما بعد.
حرق المنازل
كما تحدّث اثنان من الجنود الذين أجريت معهم مقابلة لصالح هذا المقال، كيف أصبح حرق منازل الفلسطينيين ممارسة شائعة بين الجنود الإسرائيليين، بحسب ما أوردت صحيفة “هآرتس” للمرة الأولى في كانون الثاني/يناير. وقد شهد غرين شخصياً حالتين من هذا القبيل؛ الأولى كانت بمبادرة مستقلة من جندي، والثانية كانت بأوامر من القادة. فكان استياؤه من هذه السياسة سبباً من الأسباب التي دفعته في النهاية إلى رفض مواصلة الخدمة العسكرية.
وعند احتلال الجنود للمنازل، شهد على تنفيذ السياسة التي تقول إنّه “إذا أردت المغادرة، عليك أن تحرق المنزل”. ومع ذلك، بالنسبة لغرين، فإنّ هذا الأمر لا معنى له؛ ففي “أي سيناريو” لا يمكن أن يكون هذا الإجراء جزءاً من أي خطّة أمنية إسرائيلية قد تبرّر مثل هذا التدمير. وأضاف: “نحن موجودون في هذه المنازل ليس لأنها تابعة لنشطاء حماس، بل لأنها تخدمنا عملياً. إنه منزل لعائلتين أو ثلاث، وتدميره يعني أنهم سيصبحون بلا مأوى”.
وتابع غرين: “استفسرت من قائد السرية عن هذا السلوك، فأخبرني أنّه لا يمكننا ترك أي معدات عسكرية، وأننا لا نريد أن يرى العدو أساليبنا القتالية. وقلت له إنّه يمكن للجنود التأكّد من عدم ترك أدلة تكشف أساليب القتال، فأعطاني قائد السرية توضيحات من عالم الانتقام، وقال إنّهم كانوا يحرقونها لأنّه لم يكن بحوزتهم قذائف D-9 أو عبوات ناسفة من فرقة الهندسة التي يمكن أن تدمّر المنزل بأساليب أخرى. وقد تلقّى أمراً بالتنفيذ ولم يزعجه ذلك
وأكد “B” أنّه ” قبل المغادرة، عليك أن تحرق المنزل، كلّ منزل، وذلك حتى لا يتمكّن الفلسطينيون من العودة إلى منازلهم، ففي حال خلّفنا وراءنا أي ذخيرة أو طعام، فلن يتمكّن عناصر (المقاومة) من استخدامها”.
وأشار “B” إلى أنّه “باستخدام بعض الوقود أو أسطوانات الغاز، يحترق المنزل بسهولة، ويصبح مثل الفرن”. وفي بداية الغزو البري، كان “الجيش” يحتلّ المنازل لبضعة أيام ثم يغادر. ووفقاً له، فإنّ الجنود “أحرقوا مئات المنازل. وكانت هناك حالات قام فيها الجنود بإشعال النار في الطابق، وكان الجنود الآخرون في طابق أعلى واضطروا إلى الفرار عبر ألسنة اللهب على الدرج أو اختنقوا بسبب الدخان”.
وقال غرين إنّ الدمار الذي خلّفه “الجيش” في غزة “لا يمكن تصوّره”. وروى أنّ الجنود “يعاملون المنازل على أنها متجر للهدايا التذكارية”، فنهبوا كلّ ما لم يتمكّن سكانها من أخذه معهم.
وتابع: “بعد أيام من الانتظار هناك، تموت من الملل. وترسم على الجدران أشياء وقحة. عبثنا بالملابس، وعثرنا على صور جوازات السفر التي تركوها، وعلّقنا صورة شخص ما لأنّها مضحكة. واستخدمنا كل ما وجدناه: الفرش والطعام، وأخذنا المال”.
كما شهد غرين قائلاً: “لقد دمّرنا كل ما أردنا تدميره. وهذا ليس من باب الرغبة في التدمير، بل من باب اللامبالاة التامة بكلّ ما يخص الفلسطينيين. وكل يوم، تقوم جرافة “D-9” بهدم المنازل. لم ألتقط صوراً قبل التدمير وبعده، لكنني لن أنسى أبداً كيف تحوّل الحي الذي كان جميلاً جداً إلى رمال