Responsible Statecraft منطق الجرائم الأميركية المنسية لا يزال حياً اليوم
المؤشر 18-05-2024 موقع “Responsible Statecraft” ينشر مقالاً للكاتب دانيال لاريسون، الحائز على دكتوراه في التاريخ من جامعة شيكاغو، يتحدث فيه عن المنطق الذي ينتهجه الأميركيون تاريخياً وحتى اليوم في تبرير جرائهم وجرائم وكلائهم.
في آذار/مارس 1906، هاجمت القوات الأميركية مجموعة من المورو (السكان المسلمون في الفلبين)، وقتلت أكثر من 900 رجل وامرأة وطفل على قمة جبل داجو في جزيرة جولو في جنوب الفلبين. ورغم أنّ عدد القتلى كان كبيراً، فإنّ المذبحة باتت طي النسيان.
إن استعادة تاريخ هذا الحدث هو موضوع كتاب جديد مهم للمؤرخ كيم فاغنر بعنوان “مذبحة في الغيوم: فظاعة أميركية ومحو التاريخ”.
يُعَد الكتاب إعادة سرد بارعة للأحداث التي أدت إلى المذبحة. يضع المؤرخ المذبحة في سياقها التاريخي المناسب خلال عصر الاستعمار الأميركي في الخارج في بداية القرن العشرين. كما أنه يقدم دروساً مهمة حول كيفية تسبب تجريد الآخرين من إنسانيتهم بفظائع فظيعة، وكيفية اعتماد السياسات الإمبريالية على استخدام العنف الوحشي.
في السنوات التي سبقت المذبحة، كانت الولايات المتحدة توسع سيطرتها على جنوب الفلبين بعدما ضمت الجزر الشمالية وهزمت القوات المحلية المؤيدة للاستقلال في الحرب الفلبينية الأميركية (1899-1902).
تم تنظيم علاقات الولايات المتحدة مع سلطنة سولو في البداية بموجب معاهدة “بيتس” لعام 1899، ولكن في غضون سنوات قليلة ألغت الولايات المتحدة تلك المعاهدة، وسعت إلى فرض الحكم المباشر. ألقت الولايات المتحدة المعاهدة جانباً بناءً على توصية الجنرال ليونارد وود الذي كان الحاكم العسكري المحلي لمينداناو في ذلك الوقت.
وكانت المذبحة جزءاً من تاريخ أكبر من التوسع الأميركي العنيف، وكانت نتيجة لسياسة إمبريالية سعت إلى فرض الحكم الاستعماري على الفلبين.
أثارت الجهود الأميركية لتحصيل ضريبة “السيدولا” استياءً ومعارضة كبيرة بين المورو (كان اسم مورو هو الاسم الذي أطلقه المستعمرون الإسبان الأوائل على سكان تاوسوغ المسلمين في أرخبيل سولو، وهو الاسم الذي استمر الأميركيون في استخدامه).
وكما يوضح فاغنر، فإن معارضة مورو للضريبة اعتبروها أساساً في الدفاع عن أنفسهم وعن هويتهم الدينية، التي اعتقدوا أنها ستضعف إذا خضعوا للضريبة التي يفرضها الحكام غير المسلمين.
كان المورو الذين لجأوا إلى منطقة بود داجو يحتجون على تعديات قوة استعمارية جديدة ويقاومون التدخل في أسلوب حياتهم. اعتبرت السلطات الأميركية المحتجين خارجين عن القانون، وقضت عليهم جميعاً تقريباً.
وكما علق دانييل إيمروار في كتابه “كيف تخفي إمبراطورية”، فإنّ “مذابح كهذه لم تكن مجهولة في الولايات المتحدة، لكن تم تحجيمها”.
كانت هذه الفظائع في البداية سبباً لبعض الجدل في الداخل، وحاول منتقدو الحكم الأميركي في الفلبين المناهضون للإمبريالية استخدامها لمهاجمة سياسات إدارة فرانكلين روزفلت. لم تدم الانتقادات طويلاً، ولم يواجه أي شخص متورط في المذبحة على أي مستوى أي عقوبات لاحقاً. وسرعان ما تم تبرير المذبحة وتطبيعها من خلال النداءات المألوفة لـ”الضرورة” والإيمان الاستثنائي بمهمة أميركا التوسعية.
إنّ أوجه التشابه مع الجرائم التي ارتكبها الجيش ضد الأميركيين الأصليين دفعت معظم الأميركيين إلى تبرير المذبحة في بود داجو بدلاً من إدانتها. إنّ أوجه التشابه مع الجرائم التي ارتكبتها القوى الاستعمارية الأوروبية المعاصرة لم تدفع معظم الأميركيين إلى إعادة النظر في المشروع التوسعي، ولكنها دفعتهم بدلاً من ذلك إلى التراجع عن انتقاداتهم السابقة للفظائع الأوروبية. إنّ مجرد فضح فظاعة ما في الخارج ليس له في كثير من الأحيان أيّ تأثير سياسي إذا كان معظم الناس في الداخل مصممين على تجاهلها أو تبريرها.
يشرح فاغنر كيف حاول وود وإدارة روزفلت السيطرة على تدفق المعلومات حول المذبحة، لكن المذبحة لم تكن سراً على الإطلاق، ولم تكن هناك أي محاولة للتستر عليها، لأنها أصبحت مقبولة على نطاق واسع باعتبارها “ضرورية”.
كتب الضباط والجنود المتورطون في عملية القتل رسائل حول ما رأوه وفعلوه في بود داجو، وتعد مراسلاتهم أحد المصادر التي يستخدمها فاغنر لإعادة سرد ما حدث على الجبل. لقد كان تجريد شعب المورو من إنسانيته في نظر معظم الأميركيين كاملاً إلى درجة أن الأدلة الفوتوغرافية للضحايا تحولت إلى بطاقات بريدية شعبية يشتريها الجنود والسياح.
تظهر الصور آثار المجزرة وخندقاً مليئاً بجثث القتلى مع مجموعة من الجنود الأميركيين يقفون بجانبهم. هذه هي الصورة التي يعود إليها “فاغنر” عدة مرات في الكتاب لالتقاط وحشية الحدث ولتوضيح مدى تجريد ضحايا المذبحة من إنسانيتهم.
صورة الخندق هي صورة للأعمال الوحشية “من خلال عيون مرتكبيها”، على حد تعبير فاغنر، ويوضح أنّ “الصورة ليست مجرد دليل على المذبحة ولكنها في حد ذاتها قطعة أثرية من العنف”.
اليوم، لا يزال بعض أنصار الهيمنة الأميركية ينظرون إلى هذه الحقبة من الحكم الاستعماري المباشر كدليل على الإمبريالية الأميركية الخيرة، لكن هذا يتجاهل سجل العنف الوحشي الذي تم استخدامه لتأسيس هذا الحكم والحفاظ عليه.
كان بود داجو مثالاً صادماً لهذا العنف، وكان نتاجاً لنظام يطالب ويبرر بشكل روتيني مثل هذا العنف ضد الأشخاص الذين يعيشون تحت الحكم الأميركي. وعلى الرغم من أن القليل من الأميركيين يتذكرونها، فإن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في الفلبين كانت مسؤولة عن مقتل ما يصل إلى مليون شخص.
يحتاج الأميركيون إلى أن يتذكروا هذه الفترة من تاريخ الولايات المتحدة، ولكن من المهم أيضاً أن ندرك أنّ العديد من القادة السياسيين اليوم يستخدمون أنواع المبررات نفسها لتبرير الفظائع الحديثة، سواء ارتكبتها القوات الأميركية أو الدول التي تعمل بدعم من الولايات المتحدة.
وعلى حد تعبير فاغنر، “في حين تم نسيان التاريخ الفعلي للفظائع التي ارتكبتها الولايات المتحدة في جنوب الفلبين إلى حد كبير، فإنّ المنطق العنصري الذي قام عليه العنف في مارس 1906 لم يتم نسيانه”.
وكما فعل التوسعيون قبل 118 عاماً، يواصل بعض أنصار الهيمنة الأميركية تبرير جرائم الحرب من خلال تجريد الضحايا من إنسانيتهم وإلقاء اللوم عليهم في هلاكهم.