فايننشال تايمز بناء السفن.. ساحة المعركة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين
المؤشر 16-03-2024 نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية تحقيقاً مطولاً حول النقل البحري بشكل عام، وبناء السفن، وخصوصاً تراجع هذه الصناعة في الولايات المتحدة، على ضوء مطالبة النقابات العمالية إدارة بايدن بالتحقيق في ما يعتبرونه “هيمنة” الصين على الهندسة البحرية.
على مدى أكثر من 5 آلاف عام، شكّل النقل البحري مركز الاقتصاد العالمي؛ وهو لا يقلّ اليوم أهمية عمّا كان عليه بالنسبة لأسلافنا من البحّارة.
وعلى الرغم من كلّ التقدم التكنولوجي الذي وصلنا إليه، فإنّه لا يزال الوسيلة الأكثر فعالية لاستيراد وتصدير السلع والمواد الخام. وهو يبقى حاجة ضرورية للأمن القومي، ليس من أجل الدور العريق الذي لعبه في الدفاع عن الدول والتجارة فحسب، بل لأنّ برمجيات الموانئ والمنصات اللوجستية اليوم تحتوي على بيانات مهمة حول الدول والشركات التي تنقل البضائع حول العالم أيضاً.
وحتى آدم سميث، عرّاب الرأسمالية الحديثة، اعتقد بأنّ عملية بناء السفن كانت واحدة من الصناعات القليلة جداً التي تستحق الدعم الوطني ولا ينبغي تركها للقوى الفاعلة في السوق وحدها.
ويُعدّ هذا الأمر جزءاً أساسياً من الحجّة المقدّمة في الالتماس الجديد بشأن المعونة التجارية ودعم الدولة لقطاع بناء السفن الأميركية بموجب ما يسمى بقضية المادة 301 التي رفعتها نقابة عمّال الصلب المتحدة والمنظمات العمّالية الأخرى في 12 آذار/مارس.
ويتهم الملتمسون الصين بتشويه الأسواق العالمية في القطاعات البحرية واللوجستية وبناء السفن من خلال “أفعال وسياسات وممارسات غير منطقية وتمييزية”.
ويسعى الالتماس، الذي يُمهل حكومة الولايات المتحدة 45 يوماً للرد عليه، إلى فرض مجموعة متنوعة من العقوبات والحلول لتحقيق تكافؤ الفرص العالمية في بناء السفن وتحفيز الطلب على السفن التجارية المبنية في الولايات المتحدة. ويشمل ذلك فرض رسوم الموانئ على السفن الصينية الصنع التي ترسو في الموانئ الأميركية، وإنشاء صندوق تنشيط بناء السفن لدعم الصناعة المحلية وعمّالها.
في الواقع، إنّ للقضية التي قد تبدو وكأنّها تركّز على صناعة واحدة آثار عالمية هائلة. فهي لا تنطوي على القدرة على إعادة إشعال الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين فحسب، بل ستزيد من التركيز على القوة العسكرية المتنامية للصين وقطاع الشحن التجاري الضخم الذي ترتكز عليه أيضاً. وفي الوقت نفسه، تثير هذه القضية تساؤلات حول قدرة الولايات المتحدة، بل وحتى استعدادها لإعادة التصنيع في القطاعات الاستراتيجية، الأمر الذي قد يطال الانتخابات الرئاسية في عام 2024 ويؤثر في نتائجها.
بالإضافة إلى ذلك، تُشكّل هذه القضية فرصة لمعرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على الاستمرار في لعب دورها الأمني التقليدي بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يتضمن مراقبة ممرات الشحن العالمية وتأمين بحر الصين الجنوبي للنقل التجاري، في الوقت الذي لم تعد تمتلك القدرة الصناعية والقوى العاملة اللازمة لبناء سفنها الخاصة. وبالتالي، فإنّ الاتجاه الذي ستتخذه إدارة بايدن في التعامل مع هذه القضية، وكيفية استجابة الصين لها، سيكشفان الكثير عن الشكل الاقتصادي والسياسي المستقبلي للعالم.
وكما قال وزير البحرية الأميركي، كارلوس ديل تورو، في خطاب ألقاه في كلية كينيدي بجامعة هارفارد في أيلول/سبتمبر الماضي: “يثبت التاريخ أنه على المدى الطويل لم تكن هناك قوة بحرية عظمى ولا قوة بحرية حتى، بل بناء سفن تجارية وقوة شحن عالمية فحسب”.
وعلى مدى العقود القليلة الماضية، توقفت أميركا بشكل أساسي عن بناء سفنها الخاصة.
وفي عام 1975، احتلت صناعة بناء السفن الأميركية المرتبة الأولى من حيث القدرة العالمية، مع أكثر من 70 سفينة تجارية قيد الطلب للإنتاج محلياً. وبعد مرور نحو 50 عاماً، باتت الولايات المتحدة تنتج أقل من 1% من السفن التجارية في العالم، لتتراجع بذلك إلى المركز التاسع عشر على مستوى العالم. في المقابل، ضاعفت الصين إنتاجها 3 مرات مقارنة بالولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين، حيث أنتجت أكثر من 1000 سفينة عابرة للمحيطات في العام الماضي، مقابل 10 سفن للولايات المتحدة.
يصاحب عدم التكافؤ الحاصل مخاوف تجارية وعسكرية بالنسبة للولايات المتحدة، وكذلك بالنسبة للدول التي تعتمد عليها لضمان أمنها. إذ يتم نقل أكثر من 90% من المعدات العسكرية والإمدادات والوقود عن طريق البحر، وفقاً للشكوى 301، والغالبية العظمى منها يتم نقلها على متن سفن الشحن التجارية المتعاقد عليها والمصنوعة كلها في الخارج، بما في ذلك في الصين.
أكثر من ذلك، كما تذكر الشكوى، فإنّ “الشركات الصينية، وبالأخص الشركات المملوكة للدولة، أصبحت رائدة في تمويل محطات الموانئ في جميع أنحاء العالم وبناءها وتشغيلها وامتلاكها”.
ووفقاً لبحث أجراه إسحاق بي كاردون، الأستاذ المساعد في معهد الدراسات البحرية الصينية في كلية الحرب البحرية الأميركية، بالتعاون مع ويندي ليوترت، الأستاذة المساعدة في جامعة إنديانا، فإنّ الشركات الصينية تمتلك أو تدير محطة واحدة أو أكثر في 96 ميناء أجنبياً، 36 منها تُعدّ من بين أفضل 100 شركة في العالم من حيث إنتاج الحاويات.
وفي مقال لهما نُشر عام 2022 في مجلة “إنترناشونال سيكيوريتي”، قال أصحاب البحث إنّ “هناك 25 شركة أخرى من بين أفضل 100 شركة موجودة في برّ الصين الرئيسي، تؤسس رابطة جمهورية الصين الشعبية لنحو 61% من موانئ الحاويات الرائدة في العالم”. بالإضافة إلى ذلك، تقوم الصين بتصنيع الكثير من المعدّات المستخدمة في القطاع. وتوفر شركة “زد بيه إم سي” (ZPMC) الصينية المملوكة للدولة 70% من رافعات البضائع في العالم.
وعليه، يوفّر هذا المستوى من السيطرة على الخدمات اللوجستية وسلاسل التوريد العالمية مزايا اقتصادية وأمنية واضحة، ويعكس عقوداً من القرارات السياسية التي اتخذتها كل من الولايات المتحدة والصين.
وبحسب خبراء بناء السفن الأميركيين، يرجع الانكماش الذي يشهده قطاع بناء السفن الأميركية إلى عدّة عوامل، بدءاً من الثمانينيات، عندما تم سحب معظم الإعانات الحكومية لبناء السفن، نظراً لأنها كانت متناقضة مع اقتصاديات السوق الحرة التي تبنّتها إدارة ريغان.
وفي حين لا يزال قانون جونز لعام 1920 يستلزم بناء وامتلاك وتشغيل السفن التي تمر بين الموانئ الأميركية من قبل الولايات المتحدة، فإنّ هذه الحركة تمثل جزءاً صغيراً من التجارة البحرية الإجمالية. ففي بادئ الأمر، اعتقد مسؤولون في عهد ريغان، وكثيرٌ منهم متشدد أمنياً ومناصرٌ للسوق الحرة، بأنّ بناء السفن للجيش خلال الحرب الباردة من شأنه أن يخلق طلباً كافياً لدعم صناعة بناء السفن الأميركية.
ووفقاً لمسؤولين في وزارة الدفاع والاتحادات، فإنّ الكثير من المواد الخام والعناصر اللازمة لإنتاج السفن الجديدة لم تعد متوفرة في الولايات المتحدة، نتيجة تراجع قاعدة التصنيع الأميركية والاستعانة بمصادر خارجية. وهذه مشكلة شائعة في الكثير من القطاعات، وليس في قطاع بناء السفن وحده.
في غضون ذلك، أدّى استخدام نهج الإنتاج “في الوقت المناسب” على مدى العقود القليلة الماضية إلى ثني المقاولين الأميركيين عن امتلاك الطاقة الإنتاجية الزائدة التي قد تكون رورية عند تعطّل سلسلة التوريد أو حدوث كوارث طبيعية أو مواجهة أزمات أمنية.
وقد أدى ذلك، إلى جانب دمج الصناعة وظهور السفن الرخيصة المنتجة في اليابان وكوريا الجنوبية والصين مؤخراً ، إلى انخفاض الاستثمار في أمور مثل التكنولوجيا ومعدات المصانع وتدريب العمّال الأميركيين. فكانت النتيجة تراجعاً عاماً في القدرة التنافسية والقدرة في أحواض بناء السفن الأميركية، بحسب مسؤولين في البحرية والاتحادات وبعض الخبراء الاقتصاديين المهتمين بالقضايا العمّالية.
وعليه، لا يمثّل هذا التراجع مصدر قلق كبير للمجموعات التجارية فحسب مثل مجلس بناء السفن الأميركي، كما يقول رئيسه ماثيو باكستون، بل للقطاعات التي تدعم بناء السفن أيضاً.
ويشير رئيس اتحاد عمّال الصلب المتحد (USW) ديفيد ماكول، الذي يمثل العمّال الذين يصنعون كل شيء بدءاً من الفولاذ والمحركات وصولاً إلى مواد الطلاء والكابلات وغيرها من المنتجات المستخدمة في السفن، إلى أنّ مصانع الصلب الأميركية تعمل بنحو 70% من طاقتها في جميع أنحاء البلاد. ويقول في هذا السياق: “إذا تمكّنا من التحكم بالقدرة على استيعاب المزيد من السفن والبنية التحتية لدعمها، فإنّ ذلك سيخلق العديد من فرص العمل الي بدورها ستخلق منشآت أكثر ربحية”.
في الواقع، يُقال إنّ اتحاد عمّال الصلب يتفاوض بالفعل على مسائل مثل استثمار رأس المال في المصانع التي تدعم صناعات مثل بناء السفن كجزء من جهود المفاوضة الجماعية الخاصة بهم.
ووفق ماكول، يمتلك العمّال في السوق المُعولمة حافزاً أكبر للبحث عن استثمار في صناعاتهم مقارنة بالشركات العامة الكبيرة التي يمكنها توفير وظائف أو استثمارات في أي مكان. وفي هذا الإطار، يقول: “قد يغادر الرؤساء التنفيذيون الذين يديرون هذه الشركات بعد بضع سنوات بمظلات ذهبية، لكننا نعمل في مجتمعاتنا لعقود من الزمن وعلينا أن نفكر في أمن العمّال على المدى الطويل”.
وهذه شكوى تقدّم بها الكثيرون من العمّال اليساريين وبعض اليمين السياسي أيضاً في الولايات المتحدة بشكل متزايد، خاصة في ما يتعلق بالصناعات في القطاعات الحيوية أو الاستراتيجية. ففي ظلّ انهيار نظام مؤسسات وسياسات السوق الحرة الذي تقوده الولايات المتحدة والمعروف باسم إجماع واشنطن، وبروز نقاط ضعف في سلسلة التوريد كشفتها جائحة “كوفيد-19” ونشوب حروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، وزيادة التوترات الاقتصادية والسياسية بين الصين والغرب، يواجه العمل تحديات متزايدة كالمعتاد.
وقد جعلت إدارة بايدن من سياسة التشجيع التي انتهجتها في الكثير من الصناعات الحيوية، بما في ذلك صناعة الرقائق وإنتاج البطاريات، ركيزة واضحة لاستراتيجيتها الاقتصادية، على الرغم من أنّ تنفيذ السياسات الصناعية الجديدة كان مختلطاً.
بالإضافة إلى ذلك، تستغرق عملية إعادة بناء القوى العاملة والمصانع من الصفر وقتاً طويلاً، كما أنّ تحقيق الإصدارات واسعة النطاق وفائقة السرعة الضروريّة لفعالية العمليات من حيث التكلفة وإنتاجيتها قد يستغرق سنوات أو عقوداً أخرى من الاستثمار.
وفي الوقت الذي أُفرغت فيه أحواض بناء السفن وأُعدمت قدرة البناء، اعترضت سلسلة التوريد مشكلات أكبر. ويتوقع مكتب إحصاءات العمل الأميركي حدوث “تغيير طفيف أو عدم حدوث أي تغيير” في عدد المهندسين والمهندسين المعماريين البحريين في الولايات المتحدة بين عامي 2022 و2032، في حين يزدهر سوق الوظائف لهذه المهن في دول مثل كوريا الجنوبية والصين.
ولسدّ هذه الفجوة، لجأ المسؤولون الأميركيون إلى الحلفاء طلباً للمساعدة. فالتقى ديل تورو، وزير البحرية، القلِق إزاء العواقب الاقتصادية والأمنية المترتبة على تراجع بناء السفن في الولايات المتحدة لبعض الوقت، مؤخراً مسؤولين في كوريا الجنوبية واليابان لتشجيعهم على التفكير في القيام بالمزيد من الإنتاج في الولايات المتحدة لصالح السوق الأميركية من أجل تعويض خسارتها لحصتها في السوق العالمية لصالح الصين.
وهذا أمر منطقي من الناحية النظرية، إلّا أنّ النقص في العمالة الأميركية الماهرة وفي القدرات يشكّل مصدر قلق واضح للحلفاء، وهو ما يعيد إلى الأذهان الفكرة القائلة بأنّ قطاع الشحن التجاري الحيويّ والأمن القومي ليسا مشكلتين منفصلتين، بل تربطهما علاقة معقّدة.
إنّ مسألة بناء السفن لا تتعلّق بالصلب والعّمال فحسب، بل بالتكنولوجيا أيضاً. وباستطاعتنا القول إنّ المكوّن الرقمي للنقل والخدمات اللوجستية مهمٌ من الناحية الأمنية والتجارية بمستوى أهمية ما يتم تصنيعه في أحواض بناء السفن.
وخلال السنوات الأخيرة، أطلقت الصين منصة سلسلة التوريد اللوجستية العالمية البارزة “لوجينك” (Logink) المتاحة مجاناً لمختلف الموانئ حول العالم. وما يُقلق الإدارة الأميركية والكثير من الأوساط العاملة في مجال العمالة والدفاع هو أنّ هذا الأمر قد يمنح بكين نافذة على سلاسل التوريد العالمية، التجارية منها والعسكرية، وهذا من شأنه أن يشكّل مسألة تنافسية ومصدر قلق للأمن القومي.
ومؤخراً، أصدرت إدارة النقل البحري تحذيراً، جاء فيه “أنّ “لوجينك هي عبارة عن منصة لإدارة الخدمات اللوجستية ذات نافذة واحدة تجمع البيانات اللوجستية من مصادر مختلفة، بما في ذلك الموانئ المحلية والأجنبية وشبكات الخدمات اللوجيستية الأجنبية والشاحنين وشركات الشحن وقواعد البيانات العامة الأخرى ومئات الآلاف من المستخدمين في جمهورية الصين الشعبية”.
كذلك ينصّ التحذير على أنّ “حكومة جمهورية الصين الشعبية تعمل على تعزيز معايير البيانات اللوجستية التي تدعم استخدام منصة لوجينك على نطاق واسع، ومن المرجّح جداً أن يوّفر تركيب المنصة واستخدامها في البنية التحتية الحيوية للموانئ إمكانية وصول جمهورية الصين الشعبية إلى البيانات اللوجستية الحساسة و/أو جمعها”.
بينما يصفها مايكل فيسيل، مفوّض لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأميركية الصينية، بأنها “جرح ذاتي اقتصادي واستخباراتي وطني خطير”.
وخلال الشهر الفائت، وقّع الرئيس بايدن على مرسوم تنفيذي يهدف إلى تعزيز الأمن السيبراني في الموانئ الأميركية، ويقضي بوجيه مليارات الدولارات إلى بنية تحتية جديدة وسط مخاوف من استغلال القراصنة لهذه المرافق لإحداث فوضى في سلاسل التوريد.
ويرجع التحوّل الهائل في القوة الجيوسياسية في مجال النقل البحري في جزء كبير منه إلى طموح الصين، بدءاً من عام 2001 (وهو نفس العام الذي انضمت فيه إلى منظمة التجارة العالمية)، للسيطرة على قطاع بناء السفن العالمي. وكانت بكين قد صنّفت هذا القطاع في تلك المرحلة على أنّه “استراتيجي”، وهو ما يعني تقديم إعانات ضخمة غير متوافقة مع منظمة التجارة العالمية، وفرض قيود على الشراكات الأجنبية وغيرها من السياسات المناهضة للمنافسة.
وفي عام 2006، أصبح هذا القطاع واحداً من القطاعات الاستراتيجية السبعة التي ينبغي للشركات المملوكة للدولة أن تسيطر عليها. وفي عام 2015، وكجزء من خطة “صنع في الصين 2025″، صنّفت بكين قطاع بناء السفن كواحد من القطاعات العشرة ذات الأولوية التي تسعى الصين من خلالها إلى السيطرة على التجارة العالمية بحلول عام 2025.
ومذاك، حظيَ قطاع بناء السفن الصينية بقروض لتنفيذ السياسات من البنوك المملوكة للدولة، وضخّ الأسهم ومقايضة الديون بالأسهم، وحصل على مدخلات الصلب بسعر أقل من سعر السوق، والأفضليات الضريبية والمِنح من وكالات التصدير، فضلاً عن الحماية من الملكية الأجنبية.
وتم توضيح كل ذلك في الالتماس 301، الذي يطرح قضية مفادها أنّ الصين ببساطة لا تعمل وفقاً لقواعد السوق الحرة، وأنّ القانون الأميركي يسمح للرئيس بالعمل على معالجة الوضع لأنّه يشكل تهديداً للتجارة الأميركية.
علاوة على ذلك، يشير الالتماس إلى أنّ الحلّ التجاريّ الأكثر تقليدية، الذي تم البت فيه في منظمة التجارة العالمية لن يعالج المشكلة، نظراً لأن غالبية السفن المنتَجة في الصين تُستخدم في التجارة الدولية. وفي هذا السياق، يقول ماكول: “لا يمكنكم ببساطة منافسة المنتجات الصينية المدعومة [في السوق العالمية]. فنحن بحاجة إلى إعادة صياغة السياسة الصناعية في أميركا”.
والسؤال المهم اليوم هو ما إذا كانت إدارة بايدن، التي حاولت جاهدة في الأشهر الأخيرة الحفاظ على العلاقات الأميركية الصينية ستنظر في الالتماس، وإذا تحقّق ذلك، فما مدى سرعة تنفيذه؟
ومن المحتمل أن يكون للحملات الانتخابية دور مهم في هذه القضية. ولعلّ هذه المقترحات تحظى باهتمام كبير من إدارة ترامب، لا سيّما تلك التي يتولى فيها روبرت لايتهايزر، المتشدد تجاه العلاقة مع الصين، منصب الممثل التجاري للولايات المتحدة. وفي حال لم يتحرّك بايدن، فإنه بذلك يخاطر بخسارة الدعم من العمّال، و/أو الظهور بمظهر الضعيف في مواجهة الصين.
وقد طرح البعض من اليسار الفكرة القائلة بأنّ استعادة وظائف بناء السفن قد تساعد في تعويض العمالة التي ستُفقد في خلال عملية التحوّل إلى السيارات الكهربائية، والتي تشير التقديرات إلى أنّها تتطلب نحو 40% من عدد العمّال مقارنة بالسيارات المصنّعة بمحركات الاحتراق التقليدية.
وللقضية أيضاً مخاطر دولية كبيرة. فالهجمات الصاروخية التي حصلت في البحر الأحمر والمخاوف بشأن السيادة التايوانية كانتا سبباً في إعادة مسألة أهمية القوة البحرية إلى طاولة المناقشة العالمية.
في غضون ذلك، سلطت الاضطرابات التي شهدتها السنوات القليلة الماضية الضوء على مخاطر اتباع نهج الإنتاج “في الوقت المناسب” في قطاع التجارة، ما دفع صنّاع القرار وقادة الأعمال إلى التفكير بشكل أوسع في المرونة والإفاضة في الصناعات الأكثر استراتيجية.
كما أدّى الانتقال اللاحق نحو المزيد من الاستراتيجية الصناعية إلى بروز شكاوى حول الإعانات المقدّمة في الولايات المتحدة في مجالات مثل الرقائق أو التكنولوجيا النظيفة، التي يعتبرها البعض مجالات وقائية. بالإضافة إلى ذلك، تتزايد المخاوف بشأن إغراق الصين الأسواقَ الأوروبية والأميركية بمنتجات من عدّة مجالات مثل السيارات الكهربائية.
ومهما كان ردّ إدارة بايدن، فإنّ القضية تدعو إلى التشكيك في دور السياسة الصناعية في تأسيس سوق عادلة وآمنة، فضلاً عن الحاجة إلى نموذج تجاري عالميّ جديد، نموذج يأخذ في الاعتبار الأنظمة التي تديرها الدولة ويعترف التحديات التي تتنافس معها اقتصادات السوق الحرة والشركات العامة التي تحكمها اهتمامات أصحاب المصلحة على المدى القصير.
في الوقت الراهن يراجع الأميركيون والصينيون أفكار ألفريد ماهان، الخبير الاستراتيجي العسكري الذي عاش في القرن التاسع عشر ومؤلف كتاب “تأثير القوة البحرية على التاريخ” (The Influence of Sea Power Upon History).
وعلى حدّ تعبيره: “إنّ ضرورة وجود قوات بحرية، بالمعنى المحدود للكلمة، تنبع… من وجود الملاحة السلمية وتختفي معها، إلاّ في حالة الدولة التي تمتلك ميولاً عدوانية وتحتفظ بقوة بحرية كشعبة من مؤسستها العسكرية”. فالسفن التجارية والقدرات العسكرية متداخلتان اليوم، ليس كأدوات محتملة للحرب فحسب، بل أيضاً كأدوات لإرساء السلام.