الدولار الأميركي يفقد وزنه.. قرنٌ من التضخم يهبط بقوته الشرائية إلى مستوى تاريخي

الدولار الأميركي يفقد وزنه.. قرنٌ من التضخم يهبط بقوته الشرائية إلى مستوى تاريخي

المؤشر 01-12-2025   من الصعب تخيّل أن الدولار الذي كان يكفي لشراء سلة كاملة من السلع قبل أكثر من 100 عام، لم يعد يساوي اليوم سوى جزء صغير من قيمته الحقيقية.

لكن هذا ما تُظهره أحدث البيانات الفيدرالية، فالقوة الشرائية للدولار الأميركي واصلت تراجعها المستمر منذ عام 1913، في مسار طويل شمل حروباً عالمية، وصدمات نفطية، وتغيّرات نقدية عميقة، وانتهاء ارتباط الورقة الخضراء بالذهب.

والأهم أن هذا الانخفاض لم يكن حدثاً مفاجئاً، بل نتيجة تراكمات ممتدة لعقود.

تراجع مستمر في القوة الشرائية

تكشف البيانات المجمّعة من الاحتياطي الفيدرالي أن الدولار فقد الجزء الأكبر من قيمته خلال القرن الماضي، ففي عام 1913، تاريخ إنشاء البنك الفيدرالي، كانت قوة شراء الدولار عند مستوى يفوق 1000 نقطة.

ومع بداية الأربعينيات، وتحديداً عام 1942، كان المؤشر قد تراجع إلى نحو 638 نقطة، قبل أن يتسارع الانخفاض الحاد بعد الحرب العالمية الثانية مع تضخم الإنفاق الحكومي وارتفاع أسعار السلع عالمياً.

ويُظهِر خط البيانات الطويل أن التآكل الأكبر حدث خلال السبعينيات، حين هبط المؤشر من 243 نقطة في 1972 إلى أقل من 128 نقطة في 1980، مدفوعاً بصدمة النفط وارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة والعالم.

ومنذ ذلك الحين، واصل الدولار مساره الهبوطي التدريجي حتى وصل في عام 2025 إلى نحو 31 نقطة فقط في بداية السنة، ثم انخفض إلى 30.8 نقطة في سبتمبر أيلول 2025، ما يعني أن الدولار الحالي لا يشتري سوى نحو ثلاثة في المئة مما كان يشتريه في 1913.

تحوّل تاريخي.. من الذهب إلى العملة الورقية

كان أحد أهم التحوّلات التي سرّعت تراجع القوة الشرائية فك ارتباط الدولار بالذهب عام 1971.

حينها، أنهى الرئيس ريتشارد نيكسون آخر صلة مباشرة بين العملة الأميركية واحتياطيات الذهب.

بعدما أصبحت الولايات المتحدة تطبع أموالاً أكثر مما تسمح به تغطيتها الذهبية، ومع تزايد مطالب الدول بتحويل احتياطاتها من الدولارات إلى ذهب.

أنهى هذا القرار عملياً نظام بريتون وودز الذي أُنشئ بعد الحرب العالمية الثانية، والذي جعل الدولار محوراً للتسعير العالمي.

ومع الانتقال إلى العملة الورقية غير المغطاة، اكتسبت السياسة النقدية مرونة أكبر، لكن في المقابل بات خلق النقود أسهل وأسرع، ما فتح الباب أمام موجات تضخم متلاحقة مثل تلك التي شهدتها أميركا في السبعينيات وأوائل الثمانينيات.

بماذا تخبرنا الأرقام؟

عند قراءة مؤشر القوة الشرائية للدولار عبر المدن الأميركية، يظهر بوضوح أن كل انخفاض في المؤشر كان مرتبطاً إما بصدمة اقتصادية كبرى أو فترة توسّع نقدي، سواء خلال الحربين العالميتين أو أثناء صدمات الطاقة أو في فترات زيادة المعروض النقدي.

وعلى الرغم من أنّ توسّع الكتلة النقدية قد يكون صحياً في اقتصاد كبير مثل الاقتصاد الأميركي، فإنّ تجاوزه النمو الحقيقي والإنتاج والاستهلاك يؤدي دائماً إلى الانزلاق نحو التضخم.

رؤية أوسع.. ما الذي يعنيه هذا للمستهلك الأميركي؟

لا يعني التراجع التاريخي في القوة الشرائية بالضرورة تدهور الاقتصاد، بل يدل أيضاً على تحولات في الأسعار، والدخول، والسياسات النقدية.

لكنه يطرح سؤالاً جوهرياً عن مستقبل العملة الأميركية في عالم يتحرك نحو رقمنة المال، وتعدد مراكز القوة الاقتصادية، وتغيرات كبيرة في حجم الطلب على الدولار عالمياً.

فالمستهلك الأميركي اليوم يدفع أكثر مما كان يتوقع قبل سنوات قليلة، ليس فقط بسبب التضخم الحالي، بل بسبب تراكم تضخم دام أكثر من قرن.

حقبة التضخمات الكبرى

ارتبطت الفترات الأكثر حدة في تدهور الدولار مباشرة بالحروب، وأزمات الطاقة، وتكاليف الإنتاج، وتدخلات السياسة النقدية.

فالبيانات تُظهر أن الحرب العالمية الأولى ثم الثانية أدّتا إلى قفزات كبيرة في الأسعار، فيما دفعت صدمة النفط في السبعينيات أسعار الطاقة إلى مستويات قياسية انعكست مباشرة على تكلفة النقل والإنتاج، ما أدى إلى موجات تضخمية أثّرت على كل القطاعات.

 هل تغيّر فهمنا للدولار؟

اليوم، ومع توسع الكتلة النقدية، باتت القدرة على خلق النقود عاملاً رئيسياً في تحديد مسار الأسعار المستقبلية.

فالزيادة السريعة في المعروض النقدي قد تكون مفيدة عندما تتناسب مع النمو السكاني والاقتصادي، لكنها تتحول إلى ضغط تضخمي عندما تسبق الطلب الحقيقي على الائتمان أو الإنتاج.