تعافي التعليم أولا
المؤشر 31-08-2024
بقلم: تحسين يقين
عمق ظهور فيروس كورونا سؤال التعليم في العالم، في سياق ما ظهر من أسئلة منذ تطور تكنولوجيا المعلومات على مدار 3 عقود، وفي سياق ما بدأت الأوساط ذات الاهتمام بطرحه في حقبة الثمانينات، ولعل من بدايات التفكير في منهجيات التعليم، قد ظهر في الولايات المتحدة، حين راح الأمريكيون يفكرون في التعليم على ضوء ما تميزت به اليابان، ما جعل المستوى السياسي هناك يقف ليتأمل ما كان ويكون باتجاه المستقبل.
فلسطينيا، في ظل الحرب على غزة، وضياع عام دراسي على طلبتنا هناك، وفي ظل استئناف قريب للتعليم، فسيتعمق السؤال حول كيفية البدء من جديد، في ظل تعرض الحق بالحياة، لانتهاك؛ فكون التعليم يشغل المحور الثالث من حقوق الطفل، بعد الحق بالحماية والتزويد بالحاجات، فإن الأولوية اليوم هي البقاء الفيزيقي، ومن ثم فإن أي تعليم تقليدي بالدرجة الدنيا منه، سيكون كافيا للاستمرار حياة التعليم.
ولو فكرنا قليلا، في الحال قبل السابع من أكتوبر، فسنجد أن السياق الفلسطيني غير منقطع عن السياق العام في بلادنا العربية، وبلاد أخرى كثيرة، بتشابه الحاجة للجدية في تعليم الكفايات الأساسية، اللازمة كي يتسلق من خلالها الطلبة السلم المعرفي. بمعنى أن خلاصة التأمل، هو استئناف التعليم مهما كان حاله في هذه المرحلة-مرحلة البقاء الإبداعي.
وهنا ثمة مفارقة قد تكون مدهشة أو صادمة، سواء بالنسبة للضفة الغربية أو قطاع غزة، بأنه في ظل التحولات العالمية الدافعة لتبني تعليم غير تقليدي، فإننا الآن بحاجة لتركيز الجهد في التعليم العادي جدا، أي العودة الى التعليم الوجاهي، بشرط ضمان جدية المعلم والمتعلم، بتخفيف أية عوامل أو نشاطات يمكن أن تسبب تشتيتا للعملية التعليمية؛ فلا نطلب من يمشي على عكاز أن يركض.
علينا فعلا ضمان التعافي، وبعدها فقط سيكون المجال مفتوحا على التطوير بشرط الوقوف على أرض صلبة.
مررنا بمرحلة كورونا، فإضراب المعلمين، والحصار الإسرائيلي الذي شجع على التعليم المدمج، أي التعليم الوجاهي والتعليم عن بعد، ثم عام الحرب على غزة، في ظل تذكر أن سنوات ما قبل كورونا أظهرت من خلال مؤشرات تراجع التعليم العام في فلسطين، لأسباب ذاتية وموضوعية.
أما النتيجة الأكثر أهمية لإفرازات تلك السنوات، فهي تعميق ما ظهر أصلا من قبل، وهو أن الطلبة ليسوا بحاجة لكل المباحث، كما أنهم ليسوا بحاجة الى المعلومات الواردة في المباحث جميعها، ليس فقط لأن طلبة التعليم العام صغارا وكبارا صاروا يظهرون تمردا على التعليم، من باب ماذا نستفيد من كل هذا المواد التي يتم تلقينهم أيها، بل وحفظها، بل لأن التعليم العالي أصلا نفسه، لم يظل كما هو، في ظل زيادة زهد خريجي التعليم العام بالالتحاق بالجامعات التي تتطلب وجود كفايات تعليمية لدى الخريجين يتم البناء عليها.
إذن تعمق بشكل واضح ضرورة اختيار ما يحتاجه المتعلم من مواد أساسية نضمن من خلالها تمكن النسبة الكبرى من المتعلمين منها، تاركين للطلبة مجال التعلم الذاتي الذي يتقنونه في ظل تمكنهم من التعلم من خلال التكنولوجيا بما يقبلون عليه مدفوعين باهتماماتهم وشغفهم.
والظن أن ذلك سيطور العملية التعليمية، بإعادتها الى الشغف والحاجة!
– كم نحن بحاجة للتاريخ!
– تاريخ التعليم في العالم: الحضارات القديمة، ومنها حضارات بلادنا، ثم التعليم في الحضارة العربية الإسلامية، التي تميزت بازدهارها في بضع قرون لا فيها كلها، وانتقال التعليم من المساجد الى فضاء مستقل، هو المدرسة..
– و؟
– تتبع تاريخ التعليم في العهد العثماني وصولا الى عصر النهضة العربية الحديثة، وملامح التعليم في عهد الانتداب-الاحتلال البريطاني، وتعليم ما بعد عام 1948 حسب المناطق المجزأة لفلسطين. أي التعليم في الضفة الغربية وقطاع غزة بين عامي 1948 و1967. ثم التعليم في ظل الاحتلال، وصولا للتعليم في ظل السلطة الفلسطينية.
– ؟
– فهم تاريخ التعليم بشكل موضوعي، في ظل سياقاته ستعني لنا الفرصة لفهم ما كان ويكون، هنا وفي بلادنا العربية المحيطة، باتجاه طرح السؤال اللازم: أية مخرجات نريدها من التعليم العام؟ وهل سيكون للمتعلمين دور في ما يتعلمونه؟
والآن، في ظل التحديات الاستراتيجية والآنية، وفي ظل التعامل مع نتائج الحرب على غزة، هل سنجد من سيتأمل بعمق حالنا التعليمية في ظل هذا السياق الإشكالي؟
في ظل التباس السيادة، والتباس الاستقلال، ووضوح الاحتلال واشتراطاته، وضغوطات الدوائر الغربية التي لم تستطع التحرر من أسر مجاملة الاحتلال فيما يشيعه عن محتوى المناهج، نافيا عن كتب التعليم الإسرائيلي الرسمية وغير الرسمية عوامل التحريض وتنميط غير اليهودي بالسلبية. في ظل ذلك، وحتى نستطيع فعل اختراق تعليمي، فإننا قادرون على الفعل متجنبين الأشواك في الدرب.
لذلك، من المهم الآن هو استئناف العملية التعليمية بشكل عاديّ، بالقدر الممكن، باتباع التعليم الوجاهي بشكل عام، ومراعاة ما يجدّ من معيقات، فهذه فرصة المعلمين والمعلمات في جسر الفجوات التعليمية، وهم وهن قادرون وقادرات على ذلك، بحيث يستعيد المعلمون جديتهم ورشاقتهم بوجود مدير المدرسة كمشرف يحفّز ويشجع ويتابع، وبوجود مشرف جاد، بحيث نخفف ما ترهل من علاقات داخل المدرسة.
إنها مسؤوليتنا جميعا، من خلال القدوة في العمل الجاد الملتزم، حيث تتآزر الإدارات التربوية في الارتقاء بغرفة الصف، التي عمادها المعلم الذي نقف له لعلنا نوفّه الاحترام، كونه حامل رسالة هي من أكثر الرسائل نبلا، لما للعلم من دور في تجاوز العقبات والنمو والإبداع، والبقاء المقاوم للنفي والاستلاب وسرور الأطفال والأهل.
في اليوم التالي للتعافي، وقبله، نحن معا مدعوون لإعادة النظر في مجمل عملنا: هل نحن كمؤسسات تربوية نشكل رافعة إيجابية للمدارس؟ هل سنفكر معا في ضمان أريحية التعليم المدرسي؟ هل سيتم الاستفادة من خبرات الكوادر في نختلف مستوياتها؟ وهل سنسأل الأسئلة التي نتجنبها حول منطلقات التعليم وأهدافه، والتي لن تتحقق فعلا بما يليق للمستقبل ونحن ما زلنا أسيري أساليب ومضامين ماضوية؟ وهل سنبدع في تعليم اللغة والتاريخ والتراث باتجاهات إيجابية بعيدا عن ردود الفعل، وتحمل إعداد الطلبة لزمن غير زماننا كما قال علي بن أبي طالب؟ وجبران خليل جبران حين قال الحياة لا تسكن منازل الأمس لن أبناءنا أبناء الحياة؟
العلمنة والعلمية والتفكير الناقد، ستظل أهم درجات الصعود، فهل سنكون جادين فعلا؟