كتاب المؤشر

في ذكرى رحيل درويش.. محمود درويش “هوية قيد التاليف والتكوين وانسان يشربه الظل”

المؤشر 10-08-2024  

بقلم : نافذ الرفاعي

اعترتني رهبة خاصة وحالة جلل، عندما قررت ان اكتب ورقة اشارك بها في مؤتمر جامعة بيت لحم”الإنسان والمجتمع الفلسطيني في إبداعات محمود درويش”، عن كاتب يمزج الشعر والفلسفة والفكر في نسيج شعري ابداعي، يمزج رقة ورهافة الشعر مع ثقل تعابيرالفلسفة والفكر ، شاعر وفيلسوف وسياسي ومفكر باسلوب غنائي يزخم بالموسيقى الشعرية، مكتنز بالاحلام ، مبشر بالحلم الفلسطيني والانساني المدى في سياق حضاري مفتوح.

ان تقرا محمود درويش الشاعر الموسوعي ، تحتاج الى فصول واشهر طويلة وقد يمتد سنوات، ولكن ان تطل على شعره في عدة ايام فهي محاولة تسلل قررتها، املا ان المس غبار اشعاره في هذه المحاولة، او ان اقف على اطراف هوامش نتاجه الغزير، الممتد من طفولته المتصلة بالنكبة والتشرد بتفاصيلها الطفولية، والطرد من قريته البروة والعودة متسللا حيث وقع الاشياء وخصاب المخيلة ، لم تغادره هذه اللحظات ولم ترحل عنه بل رافقت رحلته وحددت معالم هويته التي عانت محاولات الطمس والاستلاب، وشكلت محورا مهما في حياته الشعرية وترحاله المنفي، بحثا عن هوية واضطراد الاغتراب الذي لم يتحرر منه حتى بعودته في ثنايا اوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، وصولا الى نهايته المحتومة مستعدا غير متفاجيء لانه جرب الغيبوبة قبل هزيعه الاخير.

ولولا انني مدمن قراءته ما تجرأت على تلك المحاولة، ففي قراءة اولية لشذرات علاقة درويش بالمحور الاول” الهوية، الكينونة ومغزى الوجود في قصائد درويش” . احاول التوقف رويدا في المحطات التالية:

بحثه الاولي عن هويته كان في ظل الاحكام العسكرية الاسرائيلية واعتقاله والتحقيق معه، هويته كانت اكثرمن مهددة بل هناك محاولة حثيثة لطمسها، وفي بدايات الستينات .، انشد رائعته” سجل انا عربي ” التي بدا برسم هويته وكينونته، ولونه ولباسه الوطني وانشد :_

سجل! انا عربي… ورقم بطاقتي خمسون الف.. واطفالي ثمانية… وتاسعهم … سياتي بعد صيف…

ويكمل في نفس القصيدة قائلا:_

سجل !… انا عربي…ولون الشعر فحمي….. ولون العين بني… وميزاتي: على راسي عقال فوق كوفية …..*”1″ قصيدة “بطاقة هوية، ديوان “اوراق الزيتون،1964

ومن ثم لاحقا بدات هذه الهوية تتكرس وتتضح بدءا دفاعا عن عروبته، ونعته انه عربي اسرائيلي يعلن فلسطينيته من خلال المرأة شعريا، وما تحمل من رمزية عالية وعلاقة متجذرة بالارض والهوية الفلسطينية، وعمق وجمال الوصف ما بين رقة الغزل وعمق الانتماء ينشد :

“. فلسطينية العينين والوشم ……فلسطينية الاسم….. فلسطينية الاحلام والهم…. فلسطينية المنديل والقدمين والجسم ……فلسطينية الكلمات والصمت… فلسطينية الصوت… فلسطينية الميلاد والموت….*2” قصيدة عاشق من فلسطين ، ديوان عاشق من فلسطين 1966

تواكب هوية محمود درويش التطورات والاحداث وصعود نجم المقاومة ما بعد هزيمة حرب 1967حيث ينشد:-

وطني يعلمني حديد سلاسلي…عنف النسور، ورقة المتفائل….. ما كنت اعرف ان تحت جلودنا….ميلاد عاصفة…..وعرس جداولي….سدوا علي النور في زنزانة….فتوهجت في القلب….شمس مشاعلي….كتبوا على الجدران رقم بطاقتي…فنما على الجدران… مرج سنابل…..*3″قصيدة رد الفعل، ديوان “اخر الليل”1967

ويمضي محمود درويش بحثا عن هويته، متخذا منحى جديدا، ما بعد هزيمة حزيران، وصعود المقاومة، جاءت انتكاسة، تجلت احداث الاردن ومذابح ايلول وخروج الثورة الفلسطينية من الاردن في السبعينات ينشد:-

باصابعي تزفر: لا تقذفوا….فتات يومي للطريق الطويل….بطاقة التشريد في قبضتي….زيتونة سوداء، وهذا الوطن …مقلة اعبد سكينها…. ان تذبحوني، لا يقول الزمن… رايتكم!…….وكالة الغوث لا …تسال عن تاريخ موتي، ولا…تغير الغابة زيتونها،….لا تسقط الاشهر تشرينها!..

*4″قصيدة حبيبتي تنهض من نومها، ديوان حبيبتي تنهض من نومها،1970

وتتصاعد وتيرة تجذير الهوية، وانها تخطت الطمس واضحت اكثر من حلم بل هي ظل عينيك خارجة من اسطورة ارض بلا شعب كما ينشد :-

انا ات الى ظل عينيك..ات….من غبار الاكاذيب..ات… من قشور الاساطير ات… انت لي … انت حزني وانت الفرح.. انت جرحي وقوس قزح…انت قيدي وحريتي…انت طيني واسطورتي..*4.قصيدة انا ات الى ظل عينيك ديوان حبيبتي تنهض من نومها،1970

هنا التحول الجلي في اكتشاف الكينونة ، ويستخدم رمزية شفافة جدا ولكنها تصريح مجلجل رغم رقته الظاهرة، وينشد:-

اه يا جرحي المكابر…وطني ليس حقيبة….. وانا لست مسافر…انني العاشق، والارض حبيبة!..

*5قصيدة”يوميات جرح فلسطيني” ديوان حبيبتي تنهض من نومها،

1970

يعود درويش الى غنائية خطابية تصاعدية، تعكس انفعالاته ،ونلمس طرق الكلمات بصوت غاضب، ويصرخ :-

اكلما وقفت غيمة على حائط…تطايرت اليها جبهتي كالنافذة المكسورة…ونسيت اني مرصود بالنسيان.. وفقدت هويتي؟….انني قابل للانفجار …كالبكارة…—–يكمل في نفس القصيدة كالشرق… انا حالة تفقد حالتها ……..حين تكف عن الصراخ… هل تسمون الرعد رعدا والبرق برقا…اذا تحجر الصوت، وهاجر اللون؟!..اكلما خرجت من جلدي … ومن شيخوخة المكان…تناسل الظل وغطاني…؟ *6 قصيدة “مزامير” ديوان احبك او لا احبك” 1972

يقفز في انعطافة مصيرية من خلال ترحاله المنفي ووصوله مصر، حيث لم يحتمل بقاءه تحت الاحتلال، الذي يحبس صوته ويطارد انفاسه، غادر موسكو الى مصر وما تحمله من بقايا خطاب عروبي، ولكنه صدم بما واجهه من تحقيق واستجواب فينشد:-

ما دلني احد عليك …وانت يا مصر…. قد عانقتني نخلة…فتزوجتني….شكلتني.. انجبتني الحب والوطن المعذب والهوية …. .*7 قصيدة “عودة الاسير” ديوان “محاولة رقم 7 ، 1973

عبثا البحث عن الهدوء لشاعر مرتبط بقضيته، ومنفاه في ركابها، تتصدع ابعاد القضية، ويذبح الفلسطينيون من جديد في حرب المخيمات، وحصار تل الزعتر من الجيش السوري والصمود الاسطوري لهذا المخيم، اعاد السؤال لدرويش حول هويته الباحث عنها ، ويكتب قصيدته” احمد الزعتر”:-

في كل شيء كان احمد يلتقي بنقيضه….عشرين عاما كان يسال…عشرين عاما كان يرحل…عشرين عاما لم تلده امه الا دقائق معدودة في …اناء الموز… وانسحبت… يريد هوية فيصاب بالبركان، …. سافرت الغيوم وشردتني.. ورمت معاطفها الجبال وخباتني.. انا احمد العربي- قال…انا الرصاص البرتقال الذكريات… وجدت نفسي قرب نفسي… فابتعدت عن الندى والمشهد البحري…تل الزعتر الخيمة.. وانا البلاد وقد اتت .. وتقمصتني.. وانا الذهاب المستمر الى البلاد…وجدت نفسي ملء نفسي…*8قصيدة احمد الزعتر من ديوان “اعراس”1977

منحنى اكثر حدية تجاه الشعر الملحمي، يعيش شاعرنا حرب 1982 واجتياح بيروت بعد حصار دام ثمان وثمانين يوما، ولا مغيث عربي او اخر، ورحيل الاف المقاتلين من هناك الى العالم العربي، كم كنت وحدك يا ابن امي قالها محمود درويش، وصاغ محمود درويش ملحميته” مديح الظل العالي” والدلالات تشع من اسم الملحمة الشعرية:-…

بيروت تفاحة للبحر ،.نرجسة الرخام، فراشة حجرية بيروت….. شكل الروح في المرآة ….وصف المرأة الاولى ورائحة الغمام …. بيروت من تعب ومن ذهب، واندلس وشام. فضة، زبد، وصايا الارض في ريش الحمام.

………. .احرقنا مراكبنا…. وعلقنا كواكبنا على الاسوار.. نحن الواقفين على خطوط النار نعلن ما يلي : بيروت تفاحة …..والقلب لا يضحك ….وحصارنا واحة… في عالم يهلك…. سنرقص الساحة…. ونزوج الليلك…——-

-. جئنا إلى بيروت من أسمائنا الأولى …نفتّش عن نهايات الجنوب و عن وعاء القلب .——-. تفّاحة في البحر، إمرأة الدم المعجون بالأقواس ، …..شطرنج الكلام، ….بقيّة الروح ،استغاثات الندى ، …قمر تحطّم فوق مصطبة الظلام …..بيروت، و الياقوت حين يصيح من وهج على ظهر الحمام ….حلم سنحمله. متى شئنا. نعلّقه على أعناقنا…..*9.قصيدة بيروت من ديوان مديح الظل العالي 1982

و المحطة التالية حملت تحولا مدهشا من وعي الى وعي الهزيمة، والتحرر من ميثولوجيا المنتصر، وفي كينونته المرتبطة بقضيته، حيث استراح من كونه ناطقا رسميا باسم قضيته، واضحى شعره يزخر بالفكر والفلسفة والنضج في ثلاثية مبهرة.

انعكس هذا التحول على نغمة الخطاب الشعري ، وانخفضت الغنائية العالية في اشعاره، وكذالك الدرامية، وتوجه نحومدى انساني وعالمي اكثر كونية، ويظهر ذلك من خلال ديوانه ” حصار لمدائح البحر” 1984، وكذلك في ديوانه ” ورد اقل” 1986…ولاحقا لم تكن تاثيرات الانتفاضة الاولى انتفاضة 1987 مثل سابقاتها، علما انه صاغ وثيقة اعلان الاستقلال في اجتماع المجلس الوطني 1988 .

وتغيير اخر في كينونته، حيث استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجاً على اتفاقية أوسلو ، باحثا في هذه المرحلة التي استراح من عناءها الرسمي، ولكنه ما زال امام تساؤلات، في بحثه عن كينونة وجد انه غريب في العالم العربي وانشد:-

في دمشق ينام الغريب على ظله واقفا مثل مئذنة في سرير الابد لا يحن الى بلد او احد قصيدة طوق الحمامة الدمشقي د سرير الغريبة.ط 1995

ويتصاعدالسؤال امام المرض، ويقف شاعرنا امام تساؤلات كبيره، انه يدخل الى ثنايا اللغة محاولا الاعلان عن لغة شعرية خاصة، بدءا من الحروف مرورا بالكلمات والعبارات وصولا الى رمزية عالية المعاني، ما دون الفلسفة وما فوق الفكر،وهنا يبحث عن معناه الاسمي بعمق الدلالة ومركبها الابجدي وحصاده لهذه المعاني في نسيج مبهريسميه” جدارية، اهي من سلالة المعلقات، ام ابن عصري لها، يمزج فيه الشعر باشكال الفن الحديث، كلوحة جدارية تخص درويش وتضاف الى المعلقات السبع ، وينشد:-

واسمي ، وان اخطأت لفظ اسمي بخمسة احرف افقية التكوين لي: ميم المتيم والميتم والمتمم ما مضى…. حاء الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان ميم المغامر والمعد والمستعد لموته الموعود منفيا، مريض المشتهى واو الوداع ولاء للولادة اينما وجدت ووعد الولدين دال الدليل الدرب دمعة دارة درست ودوري يدللني ويدميني وهذا الاسم لي.. ولي جسد المؤقت د جدارية. 1999

ما بعد مرضه وغيبوبته، يعيش حصار رام الله والاجتياح وانتفاضة الاقصى،يجتاز الملحمية الى بث رسالة الى المحتل يعلمه ان محاولاتك عبثية في الانهاء والطمس والقضاء على الشعب والقضية وينشد:-

الى حارس: ساعلمك الانتظار على باب موتي المؤجل .. تمهل تمهل لعلك تسأم مني وترفع ظلك عني وتدخل ليلك حرا بلا شبحي ! ديوان ” حالة حصار”ط1 2002

انساني خرج من ذاتيته ليعيد صياغتها بالخروج الى العالمية، لم يغادره الشعراء العرب العظام امثال المتنبي وابو تمام واسكنهم في غرفة واحدة مع لوركا، وبابلو نيرودا، ووجدهم يتحدثون عنه قضية ومنفى وحلم، وقول ابو تمام :لا انت انت ولا الديار ديار، وكذلك لوركا:والان ، لا انا انا ولا البيت بيتي.وكما ينشد درويش: انا رجع الكمان ولست عازفه … صدى الاشياء تنطق بي فانطق..” ويضيف في نفس القصيدة انا ما زلت موجودا ولكن لن تعود كما تركتك.. \

. في عودته الى الوطن يقول درويش : اتذكر السياب.: ان الشعر تجربة ومنفى توامان. ونحن لم نحلم باكثر من حياة كالحياة، وان نموت على طريقتنا.

  • عبر إمعان الإصغاء إلى هذا الصَّوت نكتشف نبرة الذات ونبرات الجماعة وقد توحدتا في صوتَ مفردٍ في صيغة جمع، أو جمع في صيغة مفرد ، لا استجابة لاشتراطات المحتل وينشد:-

–اقول في سري…اقول لاخري الشخصي:…..ها هي ذكرياتك كلها مرئية:…——-هل هذا هو ؟”اختلف الشهود:….لعله،وكانه.فسالت:”منه؟”…لم يجيبوني. همست لآخري:”اهو الذي قد كان انت…انا؟” فغض…الطرف. والتفتوا الى امي لتشهد.. انني هو..فاستعدت للغناء على…طريقتها: انا الام التي ولدته،لكن الرياح هي التي ربته. قلت لاخري: لا تعتذر الا لامك!…*10 قصيدة لا تعتذر عما فعلت، ديوان لا تعتذر عما فعلت ،2004

في هذه الفترة تتفاعل الانا بما ترمز وتمثل من هوية وذات جماعية تتوثق عراها بمدلولاتها الثقافية والتراثية وبقاءها المرهون بوجودها بكل معانيه فينشد:-

امشي كاني واحد غيري. وجرحي وردة…بيضاء انجيلية. ويداي مثل حمامتين…. على الصليب تحلقان وتحملان الارض…لا امشي ، اطير، اصير غيري في التجلي. لا مكان ولا زمان. فمن انا؟… انا لا انا في حضرة المعراج. لكني …افكر : وحده ، كان النبي محمد…. يتكلم الفصحى.”وماذا بعد؟”…ماذا بعد؟ صاحت فجاة جندية:… هو انت ثانية؟الم اقتلك؟…قلت: قتلتني… ونسيت،مثلك، ان اموت. *قصيدة”في القدس” ديوان لا تعتذر عما فعلت ،2004

واخيرا احداث حزيران وانقلاب حماس في غزة :يقول درويش:- الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة!

تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد..

ولأنَّ جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة: هل لأمِّك، مثلهما؟

وسألني: هل أنا + أنا = اثنين؟

قلت: أنت وأنت أقلُّ من واحد!.

لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف.

ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون.

أنت، منذ الآن، غيرك….

تصاعد حانق من الانقلاب والاقتتال، الى غضب يعلن فيه انت منذ الان غيرك، بكل ما تحمل من معاني ووجع كينونة واضطراب هوية، تصاعد تواتري في القلق نحو حسم التوليفة في قصيدته لهدى غالية، عن الشاعر الذي يشربه الظل ، ينشد في قصيدته لهدى غالية التي فقدت واسرتها ووالدها على شاطيء غزة بقصف الاحتلال للعزل :-

ما انا الا هو” يقول الشاعر “بعيدا وراء خطاه… ذئاب تعض شعاع القمر…بعيدا امام خطاه….نجوم تضيء اعالى الشجر….وفى القرب منه….دم نازف من عروق الحجر….. لذلك يمشى ويمشى ويمشي…. الى ان يذوب تماما…. ويشربه الظل عند نهاية هذا السفر….. وما انا الا هو… وما هو الا انا…فى اختلاف الصور…..”.قصيدة البنت الصرخة،2008.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى