“ميدل إيست مونيتور”: حرب غزة تتجاوز نتنياهو
المؤشر 10-08-2024 موقع “ميدل إيست مونيتور” ينشر مقالاً للكاتب رمزي بارود يتحدث فيه عن التناقضات الصارخة في الاحتلال وفشل “إسرائيل” وهزيمتها يوم 7 أكتوبر، وعن سيطرة أقصى اليمين بزعامة بنيامين نتنياهو على قرارت الحكومة.
تطغى على التحليلات السياسة عموماً فكرة مفادها أنّ بنيامين نتنياهو يخوض الحرب العدوانية على غزة لمصلحته الشخصية ليس إلّا. كذلك هو الأمر داخل دولة الاحتلال، إذ تظهر أغلب استطلاعات الرأي التي تُجرى منذ بدء الإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة أنّ الأغلبية الساحقة من الصهاينة يعتقدون أنّ قرارات نتنياهو مدفوعة بمصالح شخصية وعائلية لحفظ موقعه السياسي.
لكن هذا الاستنتاج غير دقيق، لكونه يفترض خطأً أنّ الشعب الإسرائيلي يعارض عدوان نتنياهو على غزة، في حين أنّه يؤيد كل ما تقوم به الآلة العسكرية الصهيونية من جرائم وحشية منذ نحو 9 أشهر. على سبيل المثال، بعد أكثر من 300 يوم من بدء الحرب، أيد 69% من الإسرائيليين عمليات الاغتيال اليائسة التي نفذها نتنياهو، بما في ذلك اغتيال الزعيم السياسي الأعلى لحماس، الشهيد إسماعيل هنية، الذي اغتيل في طهران نهاية الشهر الفائت. ورغم أنّ قرار نتنياهو باستهداف زعيم سياسي يعكس فشله ويأسه، فكيف يمكن تفسير حماسة مجتمع الاحتلال لتوسيع دائرة العنف والعدوان
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بردّه إلى عملية “طوفان الأقصى” التي هزم فيه جيش الاحتلال هزيمة غير مسبوقة، ما مهد لسيطرة نظرية الانتقام على فهم وتحليل الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، بل إنّ الوقت حان للبدء بالتفكير خارج حدود هذه النظرية.
على مدى السنوات التي سبقت العدوان الحالي، كانت دولة الاحتلال تزيد تطرفها وفاشيتها، متجاوزة تطرف مؤسسي الدولة الصهيونية الذين قاموا بعمليات التطهير العرقي للفلسطينيين عام 1948. ووفقاً لاستطلاع رأي أجراه نُشر في العام الماضي، فإنّ 73% من الإسرائيليين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً ينضوون تحت جناح أقصى اليمين العنصري، وهم من أمثال وزراء حكومة نتنياهو إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وأوريت ستروك، وهم أيضاً من اليمين المتعصب، بمعنى أن نستنتج أنّ غالبية المراهقين الصهاينة يعتبرون أنفسهم متطرفين يمينيين بلا أي ورع، وهؤلاء هم الذين يشكلون نواة جيش الاحتلال الإسرائيلي والحركة الاستيطانية، وهم الذين يرتكبون الإبادة الجماعية في غزة والمذابح اليومية في الضفة الغربية المحتلة، وَيعملون كجنود لحملات العنصرية الواسعة النطاق التي تستهدف الوجود العربي الفلسطيني.
لقد حاول عدد كبير من المحللين تفسير كشف الدولة الصهيونية عن وجهها العنصري الأصيل بجلاء وبشكل علني، وكيف برز الشباب على وجه الخصوص باعتبارهم حراس نسخة الاحتلال من القومية الانتحارية، ولكن التفسير لا بد من أن يكون واضحاً ومباشراً، فالتطرف العنصري هو ببساطة سياق طبيعي للأيديولوجيا الصهيونية التي كانت، حتى في لبوسها “الليبرالي”، ملتزمة الكراهية والتفوق العرقي وممارسة الإرهاب والعنف.
ورغم أنّ الصهيونية الأيديولوجية في كل مظاهرها اتبعت في الأساس مسار الاستعمار الاستيطاني والاقتلاع والتطهير العرقي، فإنها تشكّلت من تيارات تتصارع وتتنافس داخل مجمعات الاحتلال نفسه، إذ يسيطر ما يسمى بالليبراليين على المواقع العليا في المؤسسة العسكرية ودوائر الأعمال مع بعض الجماعات “الوسطية واليسارية”، بغية تصدير صورة توازن بين نظام استعماري قائم على الفصل العنصري في فلسطين المحتلة و”دولة” ليبرالية انتقائية لا تطبق الحقوق إلا على اليهود.
لكن أقصى اليمين الصهيوني كان له وجهة أخرى. ولسنوات، كان هذا المعسكر بتمثيل نتنياهو ينظر إلى أعدائه السياسيين داخل دولة الاحتلال على أنّهم خونة لمجرد تجرؤهم على الانخراط في “عملية سلام” مع الفلسطينيين، حتى لو كانت هذه العملية مجرد واجهة منذ البداية، فقد كان اليمين يريد ضمان أن تكون الدولة امتداداً أيديولوجياً للمستوطنات، وهذا يفسر انتقال المستوطنين ببطء على مر السنين من هوامش السياسة إلى المركز.
وبين أعوام 2019 و2022، شهدت دولة الاحتلال 5 انتخابات عامة. ورغم أنّ تركيز أغلب الناس ظل منصباً على دور نتنياهو في تقسيم المجتمع الإسرائيلي، فإنّ الانتخابات كانت في الواقع بمنزلة معركة تاريخية بين الجماعات الأيديولوجية في “إسرائيل” لتحديد مستقبل احتلالهم واتجاه الصهيونية.
في الانتخابات الأخيرة عام 2022، فاز المتطرفون اليمينيون، وشكّلوا الحكومة الإسرائيلية الأكثر استقراراً منذ سنوات. وبينما كان يهمّون بإحداث تغييرات أساسية لإعادة تشكيل “إسرائيل” في داخل مؤسساتها السياسية والتعليمية والعسكرية، والأهم من ذلك المؤسسات القضائية، وقعت عملية “طوفان الأقصى” التي شكلت تحدياً قوياً للصهاينة كلهم على اختلاف تياراتهم، من الجيش المهان إلى أجهزة الاستخبارات المتدهورة وغيرها من الانهيارات، لكن التحدي الأعظم كان في مواجهة جماعة نتنياهو، الذي كان على وشك أن يشكل مستقبل دولة الاحتلال لسنوات طويلة. وعلى هذا، فإنّ العدوان المستمر على غزة لا يشكل أهمية بالنسبة إلى نتنياهو فحسب، بل وأيضاً لمستقبل معسكر اليمين المتطرف الذي حطمته عملية “طوفان الأقصى” إلى حد يصعب إصلاحه.
ما سبق قد يساهم في تفسير التناقضات الصارخة في الاحتلال، من عدم الثقة بدوافع نتنياهو، مع الثقة بالحرب نفسها، إلى الانتقادات الواسعة النطاق لفشله الشامل، مع الموافقة على أفعاله وغيرها من المسائل. ولا يمكن تفسير هذا الارتباك ببساطة على أساس قدرة نتنياهو على التلاعب بالصهاينة. وحتى لو فقد اليمين الإسرائيلي كل ثقته بنتنياهو، فمن دونه كشخصية تجمعهم، فإنّ فرص معسكر اليمين في إنقاذ نفسه ضاعت، كما ضاع مستقبل الصهيونية ذاتها