تحقيق لـنيويورك تايمز: تعذيب حتى الموت في القاعدة التي اعتقلت فيها إسرائيل آلاف الغزيين
صحيفة “نيويورك تايمز” تنشر للكاتبين باتريك كينغسلي وبلال شبير، يتناولان فيه التعذيب والانتهاكات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون من غزّة في قاعدة “سدي تيمان” القريبة من القطاع. تنشر الصحيفة التي زار كاتباها القاعدة شهادات لفلسطينيين أفرج عنهم. وقد تحدثوا عن التعذيب الذي تعرضوا له خلال فترة أسرهم.
أدناه نص التحقيق منقولاً إلى العربية بتصرف:
جلس الرجال في صفوف مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين. مُنعوا من التحدث، ومُنعوا من الوقوف أو النوم إلا عندما يُسمح لهم بذلك. لقد كانوا جميعاً معزولين عن العالم الخارجي، ومُنعوا من الاتصال بالمحامين أو الأقارب.
هذا هو المشهد في حظيرة عسكرية داخل “سدي تيمان”، وهي قاعدة عسكرية إسرائيلية أصبحت مكاناً لاعتقال الفلسطينيين من غزة. وقال “الجيش” الإسرائيلي إنّ معظم سكان غزة الذين تم أسرهم منذ بداية الحرب، تم إحضارهم إلى الموقع للاستجواب الأولي.
وسمح “الجيش” لصحيفة “نيويورك تايمز” بالاطلاع لفترة وجيزة على جزء من مركز الاحتجاز، وكذلك إجراء مقابلات مع قادته ومسؤولين آخرين، بشرط الحفاظ على عدم الكشف عن هويتهم.
وبعدما كانت ثكنة غامضة، أصبحت “سدي تيمان” الآن موقع استجواب مؤقتاً وبؤرة رئيسية يقوم فيها “الجيش” الإسرائيلي بإساءة معاملة المعتقلين، بما في ذلك الأشخاص الذين تقرر فيما بعد أن لا علاقة لهم بحركة حماس أو الجماعات الفلسطينية المسلّحة الأخرى. في المقابلات، وصف معتقلون سابقون تعرضهم للضرب المبرح وغيره من الانتهاكات في المنشأة.
بحلول شهر أيار/مايو، قضى ما يقارب 4000 معتقل من غزة ما يصل إلى 3 أشهر طي النسيان في “سدي تيمان”، وفقاً لقادة الموقع الذين تحدثوا إلى الصحيفة، وقال القادة إنّ نحو 70% من المعتقلين أُرسلوا بعد الاستجواب إلى سجون مخصصة لمزيد من التحقيق والملاحقة القضائية. أمّا الباقون، أي ما لا يقل عن 1200 شخص، فقد تبين أنهم مدنيون وعادوا إلى غزة من دون تهمة أو اعتذار أو تعويض.
أحد المعتقلين يدعى محمد الكردي، 38 عاماً، وهو سائق سيارة إسعاف، قال: “لم يعرف زملائي ما إذا كنت حياً أم ميتاً”، مضيفاً: “سُجنت لمدة 32 يوماً”، بعدما أُلقي القبض عليه في تشرين الثاني/نوفمبر، أثناء محاولة قافلة سيارات الإسعاف التي كان يقودها المرور عبر نقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية جنوب مدينة غزة.
التحقيق الذي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” لمدة 3 أشهر، مستندةً فيه إلى مقابلات مع معتقلين سابقين ومع ضباط عسكريين إسرائيليين وأطباء وجنود خدموا في الموقع، إضافة إلى البيانات المتعلقة بالمعتقلين المفرج عنهم التي قدمها “الجيش” الإسرائيلي، وجد أنّ 1200 مدني فلسطيني محتجزون في “سدي تيمان” في ظروف مهينة من دون القدرة على المرافعة في قضاياهم أمام القاضي لمدة تصل إلى 75 يوماً. ويُمنع المعتقلون أيضاً من الاتصال بمحامين لمدة تصل إلى 90 يوماً، ويتم حجب مكان وجودهم عن جماعات حقوق الإنسان، وكذلك عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهو ما يقول بعض الخبراء القانونيون إنّه انتهاك للقانون الدولي.
وقال 8 معتقلين سابقين، أكّد الجيش أنهم جميعاً محتجزون في الموقع وتحدثوا بشكل رسمي، إنّهم تعرضوا للركل والضرب بالهراوات وأعقاب البنادق وجهاز كشف المعادن المحمول أثناء احتجازهم. قال أحدهم إنّ ضلوعه كُسرت بعدما رُكب على صدره، وقال محتجز آخر إنّ ضلوعه كُسرت بعدما ركل وضُرب ببندقية، وهو اعتداء قال محتجز ثالث إنّه شهده. وقال سبعة إنهم أُجبروا على ارتداء الحفاضات فقط أثناء استجوابهم، كما قال ثلاثة إنّهم تعرّضوا للصعق بالكهرباء أثناء استجوابهم.
وترددت معظم هذه الادعاءات في المقابلات التي أجراها مسؤولون من “الأونروا” مع مئات من المعتقلين العائدين الذين أفادوا بوقوع انتهاكات واسعة النطاق في “سدي تيمان” وغيرها من مرافق الاحتجاز الإسرائيلية، بما في ذلك الضرب واستخدام مسبار كهربائي.
وقال جندي إسرائيلي خدم في الموقع إنّ زملاءه الجنود كانوا يتفاخرون بشكل مستمر بضرب المعتقلين. وأضاف الجندي، الذي تحدث شرط عدم الكشف عن هويته لتجنب الملاحقة القضائية، إنّ أحد المعتقلين نُقل للعلاج في المستشفى الميداني المؤقت في الموقع بسبب كسر في عظمته أثناء احتجازه، فيما أُخرج آخر لفترة وجيزة بعيداً عن الأنظار وعاد مصاباً بنزيف، كما أكّد أن شخصاً توفي في “سدي تيمان” متأثراً بجروح أصيب بها في صدره، رغم أنّه من غير الواضح ما إذا أصيب قبل أو بعد وصوله إلى القاعدة.
ومن بين 4000 معتقل تم احتجازهم في “سدي تيمان” منذ تشرين الأول/أكتوبر، توفي 35 في الموقع أو بعد نقلهم إلى مستشفيات مدنية قريبة، وفقاً لضباط في القاعدة تحدثوا إلى الصحيفة.
وذكر يوئيل دونشين، وهو طبيب عسكري يخدم في الموقع، إنّه من غير الواضح لماذا أسر الجنود الإسرائيليون العديد من الأشخاص الذين من غير المرجح أن يكونوا مقاتلين، مشيراً إلى أنّ أحد المعتقلين كان مصاباً بشلل نصفي، وآخر يزن نحو 150 كيلوغراماً، والثالث يتنفس منذ الطفولة من خلال أنبوب تم إدخاله في رقبته. وقال: “لماذا أحضروهم؟ لا أعرف.. إنّهم يأخذون الجميع”.
وقال فادي بكر، طالب الحقوق من مدينة غزة، إنّه اعتقل يوم 5 كانون الثاني/يناير على يد جنود إسرائيليين قرب منزل عائلته. وأضاف بكر، 25 عاماً، الذي نزح بسبب القتال في وقت سابق من الحرب، أنّه عاد إلى حيه للبحث عن الدقيق، لكنه وقع في وسط تبادل إطلاق النار وأصيب.
وقال إنّ الإسرائيليين عثروا عليه وهو ينزف بعد توقف القتال. وأضاف أنّهم جردوه من ملابسه، وصادروا هاتفه ومدخراته، وضربوه مراراً وتكراراً واتهموه بأنه مقاتل نجا من المعركة، ويتذكر بكر أنّه قيل له: “اعترف الآن وإلا سأطلق عليك النار”.
ووصف جميع المعتقلين الثمانية السابقين أسرهم بطرق مماثلة، فقد كانوا معصوبي الأعين بشكل عام، ومقيدي الأيدي بأربطة، وجُردوا من ملابسهم باستثناء ملابسهم الداخلية، حتى يتمكن الجنود الإسرائيليون من التأكد من أنهم غير مسلحين.
وقال معظمهم إنّهم تعرضوا للاستجواب واللكم والركل أثناء وجودهم في غزة، وقال البعض إنّهم تعرضوا للضرب بأعقاب البندقيات. وفي وقت لاحق، على حد قولهم، تم حشرهم مع معتقلين آخرين نصف عراة في شاحنات عسكرية ونقلهم إلى “سدي تيمان”.
داخل سدي تيمان، احتُجز بكر في حظيرة مفتوحة، إذ قال إنه أُجبر، مع مئات آخرين، على الجلوس مكبلي الأيدي في صمت على حصيرة لمدة تصل إلى 18 ساعة في اليوم. لم يكن للحظيرة أي جدار خارجي، ما جعلها مفتوحة للمطر والبرد.
وقال بكر إنّه كان مرهقاً بعد الرحلة إلى “سدي تيمان”، ونام بعد وقت قصير من وصوله، ما دفع أحد الضباط إلى استدعائه إلى غرفة قيادة قريبة. وقال بكر إنّ الضابط بدأ بضربه، وقال له: “هذه عقوبة من ينام”.
رفيق ياسين، 55 عاماً، وهو عامل بناء تم اعتقاله في كانون الأول/ديسمبر، قال إنّه تعرض للضرب مراراً وتكراراً على بطنه بعد محاولته إلقاء نظرة خاطفة من تحت العصابة المثبتة على عينيه، وقال إنه بدأ يتقيأ دماً وعولج في مستشفى مدني في مدينة بئر السبع القريبة. وعندما سئل المستشفى عن هذا الادعاء، أحال الصحيفة إلى وزارة الصحة التي رفضت التعليق.
وقال الجندي الإسرائيلي الذي شهد الانتهاكات في حظيرة الطائرات إنّ أحد المعتقلين تعرض للضرب المبرح، إلى درجة أنّ ضلوعه نزفت بعدما اتهم بإلقاء نظرة تحت عصابة عينيه، فيما تعرض آخر للضرب بعدما تحدث بصوت عالٍ.
وقال إسرائيليان من الموقع إنّ المرضى لم يتلقوا ما يكفي من مسكنات الألم أثناء الإجراءات المؤلمة.
وقال الأطباء العاملون في “سدي تيمان” الذين تحدثوا إلى الصحيفة، إنهم طُلب منهم عدم كتابة أسمائهم على أي وثائق رسمية وعدم مخاطبة بعضهم البعض بالاسم أمام المرضى. وقال الدكتور دونشين إنّ المسؤولين يخشون التعرف إليهم واتهامهم بارتكاب جرائم حرب في المحكمة الجنائية الدولية.
ويتذكر بكر أنّه كان يتلقى 3 وجبات خفيفة في معظم الأيام – عادة ما تكون عبارة عن خبز يقدم مع كميات صغيرة من الجبن أو المربى أو التونة، وأحياناً الخيار والطماطم. ووفقاً لعدد من المعتقلين السابقين، لم يكن ذلك كافياً. قال ثلاثة إنهم فقدوا أكثر من 40 رطلاً أثناء احتجازهم.
وقال إنّه بعد وصوله إلى القاعدة، تم نقله إلى مكان منفصل أطلق عليه المعتقلون اسم “غرفة الديسكو”، إذ أُجبر على الاستماع إلى الموسيقى الصاخبة للغاية التي تمنع المعتقلين من النوم، وأكّد بكر أنّ ذلك كان مؤلماً للغاية، إلى درجة أنّ الدم بدأ يسيل من داخل أذنه.
واتهم المحققون بكر بالانتماء إلى حماس، وأظهروا له صوراً للمسلحين لمعرفة ما إذا كان يستطيع التعرف إليهم. كما سألوه عن مكان وجود الرهائن، وكذلك عن أحد كبار قادة حماس الذين يعيشون قرب منزل عائلته، وقال إنّه عندما نفى أي صلة له بالمجموعة أو معرفته بالرجال المصورين، وتعرض للضرب بشكل متكرر.
يونس الحملاوي (39 عاماً) ممرض فلسطيني تم اعتقاله في تشرين الثاني/نوفمبر بعد مغادرته مستشفى الشفاء في مدينة غزة، قال إنّ ضابطة أمرت جنديين برفعه ووضع شرجه فوق عصا معدنية مثبتة على الأرض، مؤكداً أنّ العصا اخترقت شرجه لمدة 5 ثوان تقريباً، ما تسبب في نزيف و”ألم لا يطاق”.
وتفصّل مسودة مسربة من تقرير “الأونروا” مقابلة قدمت رواية مماثلة. وقد استشهدت بمحتجز يبلغ 41 عاماً، قال: “إنّ المحققين أجبروني على الجلوس على شيء مثل عصا معدنية ساخنة كالنار”، وقال أيضاً إن محتجزاً آخر “مات بعدما وضعوا العصا الكهربائية” في شرجه.
ويتذكر الحملاوي أنه أُجبر على الجلوس على كرسي موصول بالكهرباء، وقال إنّه تعرض للصدمة في كثير من الأحيان، إلى درجة أنّه صار تبول بشكل لا يمكن السيطرة عليه في البداية، ثم توقف بعد ذلك عن التبول لعدة أيام.
إبراهيم شاهين (38 عاماً)، وهو سائق شاحنة تم احتجازه مطلع ديسمبر/كانون الأول لمدة 3 أشهر تقريباً، قال إنّه تعرض للصعق ما يقارب 6 مرات أثناء جلوسه على كرسي. وقال شاهين إنّ الضباط اتهموه بإخفاء معلومات عن مكان الأسرى الإسرائيليين القتلى.