Jacobin: مقابر جباليا الجماعية.. صورة الوحشية الإسرائيلية
المؤشر 08-06-2024 مجلة “Jacobin” الأميركية تنشر للكاتب سراج عاصي، يتحدث فيه عن مجازر الاحتلال في غزّة عموماً، وفي جباليا خصوصاً، ويشير إلى الدمار الهائل الذي أحدثته قوات الاحتلال في المخيم، وعن المقابر الجماعية التي تتكشف بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من مدن القطاع.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
تنتصب المقابر الجماعية في جباليا كوثيقة علنية على وحشية الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة، حيث تواصل قوات الاحتلال الصهيوني قتل أي شيء يتحرك، مستهزئة بشكل صارخ بـ “الخط الأحمر” الذي وضعه جو بايدن في رفح، وتدفع الأزمة إلى مستويات مروّعة.
الخميس الماضي، وبعد 20 يوماً من القصف المتواصل والهجمات البرية، انسحبت القوات الصهيونية جزئياً من مخيم جباليا للاجئين في شمال القطاع بعد تدميره بالكامل، حيث واجه الفلسطينيون موجة جديدة من الرعب، حين سارعوا للبحث عن أحبائهم واكتشفوا مقابر جماعية جديدة وفصلاً آخر من فظائع “إسرائيل”، يضاف إلى سلسلة المقابر الجماعية التي تم العثور عليها في جميع أنحاء غزة.
وقد تم الكشف عن أكثر من 120 جثة حتى الآن، معظمها مقطع إلى أجزاء، بينها بقايا هياكل عظمية لأم وأطفالها، ومن بين الضحايا طفل مقطوع الرأس تحلل جسده تماماً، ولهذا السبب كافحت العائلات للتعرف إلى أقربائهم من خلال ملابسهم وأحذيتهم، وأشكال أجسادهم، وحتى أسنانهم.
الحقيقة أنّ المشهد يشبه مسلخاً مفتوحاً، مليئاً بالجثث المتناثرة وسط الأنقاض حيث العشرات من الفلسطينيين دفنوا تحتها. ولا تزال الجثث بمعظمها مجهولة الهوية، أو ممزقة أو متحللة بحيث لا يمكن التعرف إليها، كما تحدث تقرير صحفي، أنّ عائلة مكوّنة من 30 فرداً لم يتبق منهم إلا ملابسهم الفارغة بعد تحلل أجسادهم، من بينهم جثة طفل تحلل جسده الصغير في سريره.
الضحايا في جباليا بمعظمهم من الأطفال والنساء، بعضهم استشهد برصاص القناصة الإسرائيليين أثناء محاولته الفرار من المخيم الذي يتعرض للقصف العنيف. ومن بين الضحايا الطفلان نسمة وشقيقها مؤمن وقد استشهدا بقصف صاروخي استهدف منزل عائلتهما. كذلك، أطلقت قوات الاحتلال النار على آخرين بدم بارد داخل منازلهم، وقال رجل يحمل جثة والده المسن “لقد قتلوه في المنزل عندما أطلقوا عليه النار وألقوا عليه صاروخاً من طائرة دون طيار”، كما أطلقت النيران على بعض الضحايا أكثر من مرة، كأنهم قتلوا مرتين، في وقت قامت الدبابات والجرافات الإسرائيلية بتدمير القبور في المدافن وجرفها، وحوّلوا المستشفى الإندونيسي في جباليا إلى قاعدة عسكرية ومركز قيادة، بعد أن قاموا بإجلاء قسري لآلاف المدنيين الجرحى والأسر النازحة التي تبحث عن مأوى داخله، من دون وجود أي مكان آمن يذهبون إليه، وتضاؤل أمل الجرحى البقاء على قيد الحياة من دون إمكانية حصولهم على علاج.
محو مخيم جباليا من الخريطة
كان التوغل الإسرائيلي في جباليا أحد أكثر الاعتداءات همجية وتدميراً على الإطلاق. وأفاد الدفاع المدني في غزة أنّ “جيش” الاحتلال الإسرائيلي دمّر أكثر من ألف منزل هناك، وحوّل المخيم إلى أنقاض ومكان غير صالح للعيش. لقد أصبح أرضاً قاحلة لا يمكن التعرف عليها، وهي تعجّ بآلاف النازحين بلا مأوى.
وقالت سعاد أبو صلاح، إحدى العائدات من سكان جباليا، “لقد محيت جباليا من الخريطة”، وشبّه محمد النجار، وهو ساكن آخر مصدوم، المخيم المدمر بمكان “ضربه الزلزال”، وقال إنّ “الدمار الذي لحق بجباليا كان انتقاماً خالصاً ضد الناس والسكان المدنيين”. وبسبب الدمار الذي لا يوصف الذي خلّفته القوات الإسرائيلية، أعلن رئيس لجنة الطوارئ البلدية في شمال غزة، مخيم جباليا للاجئين ومدينة بيت حانون “مناطق منكوبة”. إنّ استخدام صفة منكوبة في هذا الإعلان يثير بشكل لا لبس فيه صدمة النكبة التاريخية للفلسطينيين.
وبهدف تجويع الناجين، أحرقت قوات الاحتلال الإسرائيلي مرافق تخزين المواد الغذائية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة “الأونروا”، والتي تعدّها “تل أبيب” الآن منظمة “إرهابية”. بينما، نشر الجنود الصهاينة صوراً ومقاطع فيديو لأنفسهم، مصحوبة بالموسيقى الفلسطينية التقليدية، وهم يحتفلون بتدمير المنازل والمتاجر ومباني “الأونروا” في جباليا. وعرض قائد دبابة منهم لقطات له وفصيلته وهم يقصفون بشكل عشوائي منازل الفلسطينيين مسلحين بالقنابل الأميركية الضخمة، يفجّرون المستودعات ويقصفون المستشفيات والأسواق والمدارس والملاجئ، وسط هتافات الاحتفال بتدمير آخر سبل البقاء للفلسطينيين في غزة.
مخيم جباليا هو الأكبر من بين 8 مخيمات للاجئين في غزة، اجتمع فيه عقب النكبة في عام 1948، الفلسطينيون الذين تعرضوا للتطهير العرقي واقتلعوا من منازلهم على يد المحتلين الصهاينة. وتضم مساحة المخيم الضيّقة التي لا تتجاوز مساحتها 1.4 كيلومتر مربع، أكثر من 120 ألف فلسطيني، وهو مخيم اللاجئين الأكثر كثافة سكانية على وجه المعمورة. ويشتهر المخيم بصموده وصبره، ما جعله هدفاً متكرراً للاعتداءات الإسرائيلية والمجازر الوحشية. وقد كانت جباليا مهد الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى، ولقبت بـ “مخيم فيتنام”، ورأس حربة المقاومة بوجه المحتل.
لكن، هجمات الإبادة الجماعية الإسرائيلية ليست في جباليا وحدها، فلم يسلم أي من مخيمات غزة الأخرى منها، وأثناء قصف جباليا، قصفت “إسرائيل” منزلاً في مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة، ما أدّى إلى استشهاد أسرة مكوّنة من 5 أفراد. وتظهر اللقطات أحد الجرحى وهو يمسك بساقه ويصرخ، “لمن هذه الساق”، وبجانبه والد انهار من الألم وهو راكع على الأرض أمام جثامين أطفاله الشهداء. كذلك، انتشلت فرق الدفاع المدني في غزة، جثتي رجل وامرأة وطفلهما الرضيع من تحت أنقاض منزل شرق القطاع، بعد استشهادهم في غارة جوية ليلية.
قصف المدنيين
تقصف “إسرائيل” الأماكن السكنية بدقّة مروّعة، وتلاحق بشكل خاص الناشطين والمتطوّعين الذين كانت خطيئتهم الوحيدة هي مساعدة الفلسطينيين على البقاء على قيد الحياة، من بينهم عائلة من غزة مكوّنة من ثلاثة أشقاء، كانوا يطبخون ويوزّعون الطعام على الفلسطينيين النازحين لعدة أشهر.
كذلك، قتلت قوات الاحتلال 3 من الطواقم الطبية في سيارة إسعاف لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، حيث تم قصفهم وتناثرت جثثهم إلى أشلاء. وقصفت في مكان آخر، والدة تخبز الخبز، وأطفالاً يبحثون عن الطعام في حي التفاح، وقتلت نجل الصحفي الفلسطيني معتصم دلول، بعد أسبوعين فقط من قتل شقيقه أيضاً، واغتالت الصحفيين علاء الدحدوح وعبد الله النجار.
إنّ آفاق الناجين من المجازر الإسرائيلية قاتمة، فسكان غزة بمعظمهم يتضورون جوعاً تحت الحصار، مع استمرار منع الاحتلال وصول المساعدات، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. وفي الأسبوع الماضي، دعت أكثر من 50 منظمة حقوقية دولية إلى إعلان رسمي عن المجاعة في القطاع، مستشهدة باستخدام “إسرائيل” المتعمّد للتجويع كسلاح، وهو ما يشكّل جريمة ضد الإنسانية. وتواصل “إسرائيل” منع وصول الأدوية والمواد الغذائية، وخاصة حليب الأطفال، الذين يتضورون جوعاً حتى الموت أمام آبائهم اليائسين، ويموتون بوتيرة مرعبة. نبيل، طفل مصاب بسرطان الدم، منعه الاحتلال من السفر وتركه ليموت بين ذراعي والدته عند معبر رفح.
لقد قتلت “إسرائيل” حتى الآن أكثر من 37 ألف فلسطيني في غزة، غالبيتهم من الأطفال، وما زال أكثر من 10 آلاف مدفونين تحت الأنقاض. ونزح أكثر من مليوني فلسطيني آخرين، واحتلت ثلث أراضي غزة لإنشاء منطقة عازلة وطريق مركزي يقسمها، بينما تقتل عائلات بأكملها وتهدم أحياء بأكملها. إنّ الدمار الذي ألحقه “الجيش” الإسرائيلي مستخدماً القنابل الأميركية بغزة، ليس له سابقة في تاريخ البشرية.
وبعد أن دمرت جباليا، تتوغل قوات الاحتلال الإسرائيلي الآن بشكل أعمق في وسط مدينة رفح، حيث يحتمي ما يقرب من 1.5 مليون فلسطيني نازح. ويعتقد أنّ رفح، التي وصفها مسؤولو اليونيسف بأنّها “مدينة الأطفال”، كانت الملجأ الأخير في غزة قبل أن تغزوها “إسرائيل” في الشهر الماضي، الأمر الذي أدّى إلى سلسلة مروّعة من المذابح ضد المدنيين.
ووفقاً لوكالة “الأونروا”، فقد نزح أكثر من مليون فلسطيني من رفح منذ الغزو الإسرائيلي. وتقول إحدى وكالات الأمم المتحدة إنّ نحو 18500 امرأة حامل في حالة رعب من كابوس القصف الهمجي الذي لا يهدأ في رفح. ووصف مدير برنامج الأغذية العالمي في فلسطين ماثيو هولينجورث، رفح بأنّها مكان يسوده زئير القذائف ورائحة الموت.
وتقول مونيكا جونستون، وهي ممرضة أميركية متطوعة في رفح، إنّ “بلدة اللاجئين الصغيرة مكان يمتلئ بالأطفال المصابين بصدمات نفسية”. كذلك، فقد أحد الأطفال يده وساقه أثناء محاولته فتح علبة سمك تونة، تبيّن أنّها مفخخة تركها الجنود الإسرائيليون خلفهم لغرض القتل. طفل آخر، شاهد والده يحترق حياً عندما قصف الاحتلال خيمتهم التي تؤويهم، لينضم إلى أكثر من 25 ألف طفل تيتموا بسبب حرب الإبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل” على غزة. ومما يزيد من مأساة رفح أنّ “الجيش” الإسرائيلي أمر بإخلاء المستشفى الميداني الأميركي على شاطئ رفح، وهو آخر مستشفى ميداني عامل هناك، وبحسب مكتب منظمة الصحة العالمية في فلسطين، أخلت “إسرائيل” مستشفى الهلال الإماراتي الأسبوع الماضي، وهو ما تبقى من المستشفيات العاملة في رفح.
الاستهزاء بـ “الخط الأحمر” الذي وضعه بايدن
إنّ التوغل الإسرائيلي المتعمّق في رفح يشكل سخرية من “الخط الأحمر” الذي حددته إدارة بايدن، والذي أثبت أنّه أجوف وضعيف. وبينما يحتفل قادة الاحتلال الإسرائيلي بالغزو والمجازر المروّعة التي ارتكبوها، تراوح إدارة بايدن في حالة إنكار عميق للأفعال الكارثية المستمرة حتى اللحظة.
وفي محاولتها المتواصلة للتقليل من شأن الفظائع التي ترتكبها “إسرائيل”، ذهبت حكومة الولايات المتحدة إلى حد تزوير تقاريرها عن غزة، بهدف الخداع وإعفاء “إسرائيل” من مسؤولية منع تدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر. ومن شأن مثل هذه الإجراءات أن تؤدي إلى إلزام الولايات المتحدة بخفض مبيعات الأسلحة لـ”إسرائيل” بموجب بند في قانون المساعدة الخارجية.
الأنكى هو دعوة زعيمي الحزبين الجمهوري والديمقراطي مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، الذي قد يواجه قريباً مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، إلى إلقاء كلمة أمام الكونغرس الأميركي، مع أنّ هذا الأمر سيؤدي إلى تآكل ما تبقى من كرامة الطبقة السياسية الأميركية، وهي تكافئ “إسرائيل” على جرائم الحرب في غزة، وتشجّعها بشكل لا يتزعزع على مواصلة جرائمها وتغذي طمعها بالإفلات التام من العقاب. وفي محاولة يائسة لإنقاذ “إسرائيل” من العزلة الدولية وإنقاذ فرص إعادة انتخابه لفترة ثانية، وضع جو بايدن خريطة طريق لوقف إطلاق النار يوم الجمعة الماضي، وإن كانت لا تصل إلى حد المطالبة بوقف دائم لإطلاق النار.
ورداً على تصريحات بايدن، كثفت “إسرائيل” هجومها، وقصفت كل قطاع غزة ورفح بلا رحمة، ونفّذت ما لا يقل عن 10 مجازر ضد المدنيين. منذ تصريح بايدن، قتلت “إسرائيل” أكثر من 160 فلسطينياً. وفي الوقت نفسه، تواصل إدارة البيت الأبيض تزويد “إسرائيل” بحزم بمليارات الدولارات من شحنات الأسلحة والقنابل الضخمة، والتي تسببت في الموت والإصابة والتشريد لأجيال من الفلسطينيين في القطاع.
إنّ شبح المقابر الجماعية في جباليا يلقي بظلال لا تمحى على ضمير الإنسانية. ومع دخول الإبادة الجماعية في غزة شهرها الثامن من دون أن تلوح لها نهاية في الأفق، يغرق الفلسطينيون في أعماق اليأس، ومن دون تدخل عالمي حقيقي لكبح جماحها، فإنّ همجية “إسرائيل” المضطربة في غزة سوف تستمر بلا هوادة.