المؤشر 12-05-2024 نشرت صحيفة “هآرتس” مقالاً للبروفسور في العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا “دافيس”، زئيف معوز، عرض فيه تحليلاً انتقادياً لسياسة “إسرائيل” الخارجية والأمنية منذ إقامتها، قائلاً إنّ “الهزيمة الأكبر في تاريخ إسرائيل هي حرب غزّة، والتي ستسجّل للأبد باعتبارها الهزيمة الأكثر خزياً في تاريخنا.. وهذا من دون أن نأخذ في الحسبان فضيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 العسكرية”.
حرب غزّة ستسجّل للأبد باعتبارها الهزيمة الأكثر خزياً في تاريخنا، وهذا من دون أن نأخذ في الحسبان فضيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 العسكرية.
نبدأ بموازين القوى، تقديرات حيال عديد القوات المقاتلة لدى حماس تتراوح بين 30 ألفاً إلى 50 ألف مقاتل، حتى لو استندنا إلى الحدّ الأعلى لتلك التقديرات، عديد قوات “الجيش” الإسرائيلي، بما فيه الاحتياط، بلغ نحو 300 ألف في بداية القتال- بمعنى 6 أضعاف عديد قوات حماس، الحاجة إلى حشد قوات في شمال البلاد إزاء خطر مواجهة عامة مع حزب الله أبقت حتى الآن في غزّة نسبة عدد قوات أعلى من تلك التي تعتبر لازمة لنجاح هجوم بري (لم نأتِ على ذكر قدرة تحرّك قوات بسرعة من ساحة إلى أخرى).
نصل إلى التوازن من ناحية نوعية وكمية العتاد لدى الأطراف: حماس لا تمتلك أسلحة جو، مدرّعات أو مدفعية، هي محدودة جداً في مجال التحصين الشخصي والجماعي، بعتاد رؤية ليلية، باستخبارات صورية وإلكترونية، مساعدة في تحديد أهداف، وتشكيل الاتصال واللوجستيك، صحيح لدى عناصر حماس امتيازات موضعية: إمكانيات تخفٍّ، إلمام بالأرض، مساعدة من السكان، لكنها تتحجّم إزاء الفجوات بين الأطراف من ناحية موازين القوى ونوعية وحجم العتاد واللوجستيك.
في ضوء كل ذلك، معطيات فتح الحرب كانت تميل جداً لصالحنا، التي لو كان ينبغي تنبؤ وقت وسرعة حسم عسكري تام، لكان من المنطقي جداً توقّع أن الحرب ستنتهي في غضون أسبوع إلى أسبوعين، بدلاً من ذلك، 7 أشهر مرّت على اندلاع الحرب، ولم نحرز حسماً ولم نحرّر الأسرى، ونحن نتمرّغ في الوحل الغزّي أمام رأي عام عالمي معادٍ وتجليّات مقاطعة وعزل مضاعفة، ومن خلال إلحاق ضرر بشري وإنساني بدرجة كبيرة- ما يدفع كثيرين في العالم إلى تسمية ما يحدث في غزّة “إبادة جماعية”.
ماذا كانت استراتيجية “إسرائيل”؟ في الأسابيع الثلاثة الأولى للقتال لم يحصل أيّ عملية بريّة، أسلحة الجو، المدرعات والمدفعية سحقت مناطق مكتظة بالسكان في القطاع حتى أصبحت تراباً، خلال استهداف كثيف للمدنيين.
الهزّة إزاء أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر أنتجت ردود فعل داعمة من جانب معظم الزعماء والرأي العام العالمي، لكن تلك الردود تبدّدت وغيّرت وجهتها إزاء أحجام القتل والدمار في القطاع، التي تأخذ بالتفاقم مع استمرار الحرب، أضف إلى ذلك، أنّ الدكّ المدفعي والجويّ منح حماس الوقت للانتظام، وخلال هذه الفترة بمعظمها استمرّت في إطلاق القذائف الصاروخية على مستوطنات الجنوب والوسط، وإعاقة أنظمة الحياة هناك، كان واضحاً لكل عاقلٍ يفهم بالاستراتيجية العسكرية، أنّه لا يمكن تحقيق الأهداف العسكرية الخاصة بالقضاء على حماس من خلال قصف جويّ ومدفعي فقط، ولذلك من الجدير أن نسأل ما هو المنطق الذي انطلقت منه استراتجية بدء القتال؟
التفسير الوحيد الذي يمكن أن يتلاءم مع السلوك الأخرق جداً لـ “الجيش” الإسرائيلي هو دمج اعتبارات سياسية وفرضية أساس عسكرية استراتيجية خاطئة.
الاعتبار السياسي واضح: استمرار القتال يخدم سلطة بنيامين نتنياهو وعصابته؛ وبهذا المعنى، بيني غانتس وغادي أيزنكوت هما داعمان موجّهان لهم، لكن الاعتبار العسكري لسياسة الدكّ كان مختلفاً: اعتقاد ساذج- أثبت مجدّداً زيفه في التاريخ العسكري المعاصر- الضرب (الدكّ) المتواصل للشريحة المدنية سيدفع سكان القطاع إلى الثورة ضد حماس، حتى لو حصل غضب كبير ضد حماس في القطاع (ولا أحد يعرف ما هو حجمه الدقيق)، ثمة صعوبة كبيرة في ترجمة هذا الغضب إلى نشاط سياسي كثيف يؤدي إلى إسقاط سلطة حماس، أضف إلى ذلك، سياسة ضرب السكان بغية الوصول إلى انقلاب سياسي فشلت مراراً وتكراراً في الحروب: في الحرب العالمية الثانية، الألمان استمروا بالقتال إلى أن احتلّ الحلفاء برلين؛ اليابانيون استمرّوا بالقتال إلى أن قرّر القيصر الاستسلام بعد إلقاء قنبلتين نوويتين؛ في حرب فيتنام استمرّ الشمال بالقتال رغم القصف الأميركي الثقيل.
المناورة البرية بدأت إزاء سلسلة ضغوطات سياسية، ودارت بتفاهة تستحقّ التبجيل، بدلاً من مهاجمة القطاع من كل النواحي باتجاه قطع مسارات تهريب مقاتلي حماس وعرقلة الخدمات اللوجستية المنظمة (بما في ذلك القدرة على نقل الأسرى من مكان إلى آخر)، “الجيش” الإسرائيلي يزحف في مراحل من الشمال إلى الجنوب، إلى أن تمرّغ في الوحل عند أطراف رفح، بينما يفشل في إرساء السيطرة الكاملة على أيّ من أجزاء القطاع، المنطق الذي انطلق منه هذا التكتيك هو تقليص الخسائر وسط الجنود قدر الإمكان، لكنّ الثمن العسكري والدبلوماسي الذي جبته هذه السياسة عالٍ جداً، ويظلل على كلّ إنجاز خاص بتكتيك القتال الزاحف.
بالطبع، الاحتلال الزاحف لأجزاء من القطاع لم يؤدِ إلى ضغط على حماس وتحرير الأسرى، ومن المرجّح أن العكس هو الذي يحصل، المزيد من الأسرى والقتلى في خضم استمرار القتال.
وهكذا نحن نقف بعد 7 أشهر أمام بدء القتال في رفح، حيث تحتشد شريحة سكانية كبيرة ومعظم عديد القوات (على ما يبدو السلاح أيضاً)، الذي بقي لحماس، نحن بعيدون أشدّ البعد عن تحقيق الأهداف العسكرية للحرب، نحن مسؤولون عن كارثة إنسانية ضخمة، في ظل واقع تحيط به عزلة دولية عميقة ومتزايدة- بما في ذلك خطر حقيقي يحوم حول خسارة آخر أصدقائنا إذا ما عمّقنا الاجتياح إلى رفح، فيما الإنجاز الوحيد الذي يمكن أن نلاحظه هو بقاء سلطة نتنياهو وعصابته، وانزلاق مستمر لأصوات محتملة من المعارضة إلى الائتلاف، ومن الناحية العسكرية، لا يهم كيف ومتى سينتهي القتال، هُزمنا بشدّة.
لهذه الهزيمة آباء كثيرون – بعضهم يرتدي بذلات والبعض الآخر بذلات عسكرية مع “فلافل (رتبة رفيعة)” وسيوف مع إشارة صليب زيتية على الأكتاف، على مرّ السنين بَنَت “إسرائيل جيشين” منفصلين كلياً: الأول، “جيش” تكنولوجي من الجيوش الأحدث في العالم، مهمة هذا “الجيش” رأيناها في 13 نيسان/أبريل، عندما أحبط تقريباً هجوم الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية، ومن الجدير تغيير اسم “الجيش” الثاني إلى “جيش المستوطنين لإسرائيل”، فمنذ عشرات السنوات كان هدفه الأساسي هو إدارة الاحتلال، في العقد الأخير عمل هذا “الجيش” كمساند عملياً في استراتيجية ازعاج وتخويف الفلسطينيين عبر مستوطنين في الضفة، كل رؤساء الأركان الذين عملوا تحت سلطة نتنياهو ينبغي أن يحصلوا على رصيد حيال بناء “الجيش” التكنولوجي، لكن بموازاة ذلك استحقّ بعضهم انتقاداً خطيراً من جرّاء العمل المخزي الذي اقترفه الساسة.
ليس بوسع هذا الكلام أن يسيء إلى قدرات أداء المقاتلين في الميدان، هؤلاء أنهكوا في السنوات الأخيرة بنشاط كـ “جيش” احتلال، لكن في الأساس نوعية القتال في مستويات الوحدات الميدانية بقيت عالية نسبياً، أيضاً القيادة الناشئة بقيت ذات نوعيات عالية، تعود المشكلة إلى مستويات القيادة العليا، التي كرّست وقتها لإدارة الاحتلال، وأدى هذا التكريس إلى غياب الحزم وغياب الابتكار التخطيطي والعملاني، لقد رأى هذا الإنهاك عناصر كثيرون، والتحذيرات المتكررة (على سبيل المثال ياغيل ليفي أو اللواء في الاحتياط إسحاق باريك) أجيبت بتجاهل عدائي سواء من جانب الساسة أو قادة “الجيش”.
هذا وقد رأينا عدم الوجود العسكري منذ مواجهة انتفاضة الأقصى والعملية البرية في نهاية حرب لبنان الثانية، إنّ التركيز على عمليات إحباط مركّزة وعقوبة جماعية، والدعم المستمر لإرهاب المستوطنين، سحقت كفاءة قيادة وسيطرة “الجيش”، ودفعت القادة الرفيعين إلى تكريس وقتهم لخدمة ساسة فاسدين، ونقل قدرات “الجيش” إلى حيّز ليس ذا صلة بأمن “إسرائيل”.
إنّ تغيير المستوى السياسي ضروري لأمن الدولة ومستقبلها، ومسؤولية المستوى السياسي من الناحية الاستراتيجية تتجاوز كثيراً الفشل والتضليل الخاطئ الذي قاد إلى كارثة الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر، كما أنّ المستوى السياسي – بمن فيه أشخاص كـ نفتالي بينيت، أفيغدور ليبرمن ويائير لبيد – أخطأ لسنوات في التضليل بأنّه ينبغي تخدير الموضوع الفلسطيني، ويمكن إشغال “الجيش” بمهام حفظ الأمن في المناطق الفلسطينية وحراسة المستوطنات، دم الضحايا في هذه الحرب هو أولاً على أيدي بنيامين نتنياهو، لكن أيضاً كل الساسة الآخرين ليسوا بريئين من هذه التهمة، ينبغي على “إسرائيل” أن تعود إلى المفاوضات الجدّية مع السلطة الفلسطينية، ليس بغية معالجة “اليوم التالي” في قطاع غزّة، إنّما بغية بذل جهد حقيقي لإنهاء الصراع، لن يكون لـ “إسرائيل” مخرج من العزلة الدولية الآخذة بالاشتداد إذا لم تعطِ فرصة حقيقية لعملية سياسية مع الفلسطينيين.
بموازاة ذلك، إنّ تأهيل “الجيش” الإسرائيلي بعد انتهاء الحرب ينبغي أولاً أن يحدّد من جديد مراكز عمله، ومن دون صلة بمستقبل المناطق، لا يمكن لـ “الجيش” الإسرائيلي أن يكون ولا ينبغي أن يكون “جيش” حفظ أمن، بل ينبغي الاستعداد لحرب مع مختلف التحديات، بدءاً من حرب مع منظمات “شبه دولة” وغيرها، وحرب في مسافات بعيدة مع جيوش تقليدية، وتهديدات صواريخ وسلاح الدمار الشامل.
إنّ كفاءة التآزر بين مكوّنات “الجيش” المختلفة (سلاح الجو، البحر، الاستخبارات وأسلحة برية) تلزم بإعادة النظر خارج الصندوق، وأيضاً، صناديق جديدة، فالأشخاص الذين أداروا “جيش” الاحتلال وفضيحة حرب غزّة – سواء في المستوى السياسي أو العسكري – ينبغي استبدالهم بأسرع وقت، بغية أن تحيا “إسرائيل”.