في ذكرى استشهاد عبد القادر الحسيني في القسطل في نيسان/أبريل 1948
المؤشر 15-04-2024
بقلم د. رفيق الحسيني
عبد القادر الحسيني، المولود في العام 1908، هو الإبن الأصغر للشيخ موسى كاظم الحسيني، الذي توفي في بداية العام 1934 جراء ضربه بالهراوات البريطانية خلال تظاهرة كبرى في يافا ضد تحويل فلسطين العربية إلى وطن قومي لليهود.
تخرج موسى كاظم، المولود في العام 1858، من المكتب الملكي في الأستانة في العام 1879، وهو أرقى معهد في الامبراطورية العثمانية لإعداد الطلاب للوظائف الحكومية، وقد بدأ حياته الوظيفية قائمقاماً في يافا (1881). وبعد تنقلات عدة، أصبح موسى كاظم مُتصرفاً في عسير (1892)، ثم عاد إلى الأستانة حيث أنعم عليه بلقب “مير ميران” ولقب الباشوية، ثم أصبح مُتصرفاً لنجد (1896)، فالحسا (1900)، وحارم (1907)، والمنتفق (1910)، وحوران (1912).
ويضيف عجاج نويهض أن موسى كاظم كان أكبر شخصية عربية في فلسطين، “بل من مقدمي شخصيات العرب الذين علوا عُلواً كبيراً في فن الإدارة في الدولة العثمانية… وسجّل في سيرته ضرباً من الاستقامة فريداً لا شك في ذلك. ولما وقعت الحرب العالمية الأولى لزم بيته في القدس، إلى أن عُيّن محل أخيه حسين الحسيني [المتوفي] رئيساً للبلدية أول 1918…”
في 4/4/1920، منعت الشرطة أهل الخليل من دخول القدس للاشتراك في احتفال النبي موسى خوفاً من وقوع اشتباكات بين العرب واليهود، وكان أهل القدس ومعهم أبناء نابلس قد خرجوا لاستقبالهم ومعهم أبناء الطوائف المسيحية حسب العادة المتبعة. فاقتحم أبناء الخليل باب الخليل في القدس عنوة، وإتجهت كافة الجموع إلى الساحة أمام باب الأسباط وسط هتافات وطنية تطالب بالوحدة العربية والاستقلال، وتنادي بالأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سورية وفلسطين، وتعلن رفضها للوطن القومي اليهودي والهجرة الصهيونية.
ومن على شرفة النادي العربي وقف الخطباء، فتكلم موسى كاظم الحسيني رئيس بلدية القدس والحاج أمين الحسيني رئيس النادي العربي، وخليل بيدس وآخرون. وكانت الكلمات حماسية، فأثارت الشعور القومي. بالمقابل، تجمّع بعض الشباب اليهودي المُتزمّت بقيادة المتطرف فلاديمير جابوتنسكي (الأب الروحي لحزب الليكود)، فهاجموا العرب المُحتفلين، ونشبت معركة حامية سقط فيها قتلى وجرحى من الطرفين. وقد استمرت الاشتباكات في القدس مدة خمسة أيام، وانتهت في 10/4/1920 بقيام القوات البريطانية بمحاصرة المدينة القديمة وإعلان الأحكام العرفية، وحظر التجول، وتعطيل جميع الصحف. وذكر بلاغ بريطاني رسمي أن حصيلة المعارك كانت مقتل أربعة من العرب وتسعة من اليهود، وجرح 250 شخصاً من الطرفين.
عقب هبة النبي موسى، أصدرت المحكمة العسكرية البريطانية أحكاما بحق عدد من العرب واليهود. بالنسبة لليهود فقد حُكم على جابوتنسكي بـ 15 سنة (خُفف إلى سنة) و17 يهود آخرين بثلاث سنوات (خُفضت إلى ستة أشهر من قبل قائد القوات). أما فيما يتعلق بالعرب، فقد حكمت المحكمة العسكرية على خليل بيدس ودرويش عبد الفتاح بالسجن سنتين (خُفضت لاحقاً إلى ستة أشهر) وبرأت كامل البديري والشيخ حسن أبو السعود وعبد اللطيف الحسيني. كما صدرت أحكام غيابية بالسجن بحق أمين الحسيني رئيس المنتدى العربي في القدس وعارف العارف رئيس تحرير مجلة سورية الجنوبية – التي كانت تصدر في القدس منذ العام 1919 – بالحبس 10 سنوات مع الأشغال الشاقة بتهمة التحريض على العنف، بعد تمكنهما من الفرار إلى شرقي الأردن والالتجاء لدى عشائر الكرك والسلط وغيرها.
لكن مسلسل المواجهة بين بريطانيا والحركة الوطنية الفلسطينية لم ينته. ففي 10/5/1920، وبعد ضغط صهيوني على لندن، طلب العقيد ستورز الحاكم العسكري للقدس من موسى كاظم باشا الحضور الى مكتبه وأبلغه بقرار عزله من رئاسة البلدية. وقد قيل أن موسى كاظم لم يتفاجئ بقرار ستورز وقال للأخير مُتحدّياً أنه لن يجد من المقدسيين من يقبل بتسلّم المنصب بعد إقالته، ولكن ستورز أخرج من دُرجِه رسالة الموافقة الخطّية من راغب بك النشاشيبي.
وهكذا، بعد أقل من سنتين على دخول بريطانيا إلى القدس، انتهت مرحلة العلاقة الودّية المُلتفحة بالتفاؤل بين الحركة الوطنية الفلسطينية وبريطانيا وبدأت مرحلة المجابهة السياسية التي قادها موسى كاظم بعد تنحيته من رئاسة البلدية، فتم انتخابه رئيساً للمؤتمر الفلسطيني الثالث في نهاية العام 1920 خلفاً لعارف باشا الدجاني، وأعيد انتخابه في المؤتمر الرابع (1921) والخامس (1922) والسادس (1923) والسابع (1928)… فقد كان أعضاء المؤتمرات الوطنية ينتخبون موسى كاظم الحسيني بالإجماع في رئاسة المؤتمرات ولجانها التنفيذية، بعد أن أثبت الأخير للشعب جرأته ووطنيته ومعارضته الصريحة لتصريح بلفور، مما أدى إلى طرده من رئاسة بلدية القدس وتجريده من كل امتيازاته.
وفي أغسطس 1922، وبعد أن فشل الوفد الفلسطيني برئاسة موسى كاظم الحسيني إقناع الحكومة البريطانية بالتراجع عن تصريح بلفور، أفشل المؤتمر الفلسطيني الخامس المخطط البريطاني لعقد انتخابات لمجلس تشريعي مبني على مساواة العرب باليهود (الذين أصبحوا يمثلون آنذاك 18% من سكان فلسطين) ورفض المشاركة الفلسطينية في انتخابات المجلس الجديد.
وعندما حاول المندوب السامي القيام بمحاولة التفافية، وذلك بإعلانه – في مايو 1923- إلغاء فكرة الانتخابات للمجلس التشريعي وقام بتعيين مجلس استشاري برئاسته، مؤلفاً من أربعة وعشرين عضواً نصفهم من البريطانيين وعشرة من العرب “المعتدلين” (ثمانية مسلمون ومسيحيان اثنان) واثنان من اليهود، ردت اللجنة التنفيذية بمذكرة من رئيسها موسى كاظم الحسيني إلى المندوب السامي جاء فيها أنها – بصفتها الممثلة للأمة العربية الفلسطينية – “تُعلن بأن هذا المجلس [الإستشاري] لا يمثّل أحداً غير أعضاءه وأن البلاد لن ترتبط بشيء من مقرراته أو تكون مسؤولة عن أعماله”. وقد تمخّض الضغط الشعبي العارم والرافض للمجلس لإستشاري عن استقالة جميع أعضاء المجلس العرب تباعاً، وبذلك يكون المجلس الإستشاري ومن قبله المجلس التشريعي قد فشلا تماماً.
وفي العام 1923، حين دارت مباحثات بين ممثل الحسين بن علي (وكان قد أصبح ملكاً على الحجاز) واللورد كيرزون وزير الخارجية البريطاني، وكادت تتمخّض عن إتفاق بين الطرفين بشأن مشروع معاهدة جديدة تُنظِم علاقة الدولتين وتُشير إلى الإلتزام بتصريح بلفور، تواصل موسى كاظم الحسيني مع الملك الحسين موضحاً خطورة تلك الخطوة ورفض الحركة الوطنية الفلسطينية لها، فأشار الملك على حكومته تقديم مقترحات جديدة بشأن فلسطين. ردّت بريطانيا بارسال مُذكرة إلى ملك الحجاز ضمّنتها موقفها واصرارها على تنفيذ تصريح بلفور، فانهى الملك الحسين بن علي المفاوضات ورفض المعاهدة بصيغتها البريطانية، الأمر الذي أدى إلى طرده من الحجاز في العام 1924 ومن ثم نفيه إلى قبرص في العام 1925.
وفي قبرص، أقام الملك حسين تحت مُراقبة بريطانية مشدّدة برفقته إبنه الأمير زيد بن الحسين وحفيده الأمير طلال بن عبد الله. وبعد أن إشتد عليه المرض، في نوفمبر 1930، سمح له البريطانيون بالعودة الى عمّان فعاش هناك عند ابنه الأمير عبد الله الى أن توفي في 3/6/1931. ولتثبيت القدس والأقصى في قلوب الهاشميين ومؤيدي الثورة العربية الكبرى، تقدّم موسى كاظم الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني السابع والحاج أمين الحسيني – باسم المجلس الإسلامي الأعلى – بطلب أن يُدفن الملك الحسين في القدس التي أحب – بل وخسر مملكته الحجازية من أجلها، وتبرّع من ماله الخاص لترميم المسجد الأقصى. فكان لهما ذلك، ووُرِيَ جثمان الملك الحسين الأول في الرواق الغربي من المسجد الأقصى، وبعد ثلاث سنوات وُضع جثمان موسى كاظم إلى جانب المغفور له الملك الحسين بن علي.
أما اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني السابع، فظلت قائمة لمدة أشهر قليلة من استشهاد رئيسها، في مارس 1934، إثر ضربه بهراوات البوليس الانكليزي خلال مشاركته بتظاهرة كُبرى يافا في أكتوبر 1933، وهو شيخ تجاوز الثمانين من العمر. ولم يُعقد بعد ذلك مؤتمر وطني عام آخر في فلسطين، إلا في العام 1964.
أما عبد القادر الحسيني، فلم يظهر اسمه على مسرح السياسة العربية في فلسطين إلا في العام 1932، أي قبل وفاة والده بسنتين … فبعد أن انتخبه طلبة الجامعة الأمريكية في القاهرة لإلقاء كلمة الخريجين في حفل التخريج، أعلن عبد القادر للحضور أن الجامعة الأمريكية لعنة لكل ما تبثه من أفكار وسموم في عقل الطالب، وطالب الحكومة المصرية أن تغلقها، مما حدا بالجامعة الأمريكية إلى سحب شهادته … بل تم طرده من مصر بقرار من حكومة اسماعيل صدقي، فعاد إلى القدس.
وفي العام نفسه (1932) تسلّم عبد القادر عملاً بدائرة التسوية في منطقة الرملة التابعة لحكومة الانتداب. ويروي الكاتب اليهودي داني روبنشتاين أسباباً لقبول عبد القادر تلك الوظيفة منها حاجته إلى الراتب، ومحاولة احتوائه وإغرائه براتب كبير من قبل البريطانيين كونه ابن موسى كاظم باشا، ولكن الرواية التي رواها عبد القادر عن سبب قبوله الوظيفة أنها كانت من أجل العمل على الحيلولة دون ظلم الفلاحين العرب وانتقال الأراضي لليهود بطرق ملتوية.
وبنفس الوقت، بعد وفاة موسى كاظم في مارس 1934 وتفتت اللجنة التنفيذية، أخذ الحاج أمين الحسيني (مفتي القدس ورئيس المجلس الاسلامي الأعلى الذي لم يكن عمره قد تجاوز الـ 38 عاماً)، يبرز كزعيم جديد لفلسطين، وبدأ – وداعميه الذين عُرفوا بالمجلسيين – يستعدون لمواجهة مسلحة مع الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية بعدما يأسوا من إمكانية تغيير السياسة البريطانية بالحوار والمنطق والوفود ورسائل الاحتجاج، فأخذوا يعملون على شراء السلاح، وتجنيد ضباط وطنيين عرب ممن حاربوا في الجيش العثماني، وتدريب قادة ومقاتلين جدد من قرى فلسطين ومدنها، مستخدمين أموالاً جمعوها عن طريق التبرعات، أو من أموال الأوقاف كما ادعى أعدائهم.
ويقول القائد بهجت أبو غربية في مذكراته أنه وعدد من رفاقه أسسوا مجموعة ثورية مسلحة في القدس في العام 1934، “وفي هذه الأثناء – أوائل سنة 1936 – كان عبد القادر الحسيني يعمل على تأليف تنظيم ثوري مسلّح، ولم ننكشف عليه ولم ينكشف علينا إلا بعد قيام الثورة”.
أخذ التنظيم العسكري السري الذي أشرف الحاج أمين (والمجلسيون) على تأسيسه وعُرف باسم “الجهاد المقدس”، يتوسع. وكان عبد القادر الحسيني من بين الذين تلقوا تدريباً عسكرياً في دول مجاورة في بداية التأسيس، وكذلك الشيخ حسن سلامة، وعبد الرحيم الحاج محمد، وعارف عبد الرازق، وقاسم الريماوي. وانضم إليهم شباب وطنيين أصبحوا من قيادات الثورة المسلحة فبما بعد، ومنهم إبراهيم أبو ديّة، وصبحي أبو غربية، وعبد الحليم الجولاني، وعلي الموسوس، وحافظ بركات أبو الفيلات، وعبد الله العمري، ومحمد عادل النجار، وفوزي القطب، وقاسم الريماوي.
في نهاية الاجتماع السرّي الأول الذي انعقد في أواخر أبريل 1936، فوض المجتمعون عبد القادر الحسيني (وكان لم يتجاوز السابعة والعشرين من العمر) أمر إعلان الثورة في الوقت المناسب، بعد التواصل مع الحاج أمين الحسيني، الذي أُنتخب في منتصف أبريل 1936 رئيساً للجنة العربية العليا بعد تشكيلها من كافة الأحزاب الوطنية العاملة على الساحة الفلسطينية مُعلنة الاضراب الشامل والعام. وكان عبد القادر قد إستقال من منصبه في دائرة تسوية الأراضي عشية اندلاع الاضراب في أبريل 1936 للتفرغ للعمل العسكري وليكون جاهزاً للقتال يوم اعلان بدء الثورة المسلحة.
وفي 6/5/1936، أطلق مقاتلو الجهاد المُقدس رصاصتهم الأولى ضد ثكنة بريطانية في قرية بيت سوريك بالقرب من القدس، وبدأوا ببعض العمليات الصغيرة من نسف للجسور وزرع الألغام. وفي أواسط مايو 1936، أخذ العصيان المدني – المجبول بالعنف – يتصاعد… فشمل تدمير خطوط الهاتف والتلغراف، وتعطيل خطوط المواصلات من شوارع وقطارات، وهجوم على بعض الأفراد من القيادات الصهيونية وأعوانهم، وافتعال اضرابات وتظاهرات هنا وهناك.
كان عبد القادر ينتظر بفارغ الصبر وصول ضباط عرب أكبر سناً وأكثر تمرساً في القتال أمثال سعيد العاص وفوزي القاوقجي لمعاونة “الجهاد المقدس” على تخطيط الاشتباك مع الجيش البريطاني، وكان متوقعاً وصولهما مع بعض الثوار المُدربّين بعد شهر أغسطس 1936. وبالفعل، بعد دخول الضباط العرب، بدأت المعارك العسكرية تشتد … وفي بداية شهر أكتوبر، وقعت معركة كبيرة قرب حلحول (الخليل) قادها سعيد العاص (وهو سوري حمصي من كبار قادة الثورة العربية الكبرى ومن جماعة الضباط العرب الأحرار) وكان قد دخل إلى فلسطين متسللا في بداية سبتمبر 1936 وتولّى قيادة منطقة بيت لحم والخليل. وقد استمرت المعركة 15 ساعة وأسفرت عن مقتل عدد كبير من الجنود البريطانيين… ودارت بعدها معركة بيت جبرين (الخليل) فاستمرت خمس ساعات، ومن ثم معركة الخضر (بيت لحم) في 6 أكتوبر التي استمرت طيلة النهار، استشهد على أثرها القائد سعيد العاص، وجُرح نائبه عبد القادر الحسيني في المعركة نفسها، مما كان لذلك كبير الأثر على معنويات الشعب الفلسطيني، وعلى “الجهاد المقدس” بالتحديد. ولمّا كانت صحف فلسطين قد مُنعت من الصدور ما بين 4 و9/10/1936، سمحت الرقابة العسكرية لجريدة فلسطين (التي لم يُطالها المنع) نشر خبر استشهاد العاص وجرح نائبه عبد القادر الحسيني (بدون ذكر أسمائهما) تحت عنوان “احتفال بجنازة شهيد معركة” كما يلي:
” القدس في 8 ت 1 (أكتوبر) إحتُفل ظهر اليوم في قرية الخضر بدفن شهيد معركة الأمس احتفالاً كبيراً اشترك فيه أهالي القرية المذكورة وجمع من أهالي بيت لحم وبيت جالا والقرى المجاورة، ولم يتمكن أحد من القدس من الذهاب إلى هناك لأن السيارات قد مُنعت من السفر.وقد أبّن الشهيد الأستاذ عيسى البندك [رئيس بلدية بيت لحم] والسيد عيسى جحا والشيخ ياسين مختار أبناء الخليل في بيت لحم. وكان حاضراً تشييع الجنازة عدد من رجال الجيش وضابط بوليس بيت لحم ونفر من رجاله، تغمّد الله الشهيد بواسع رحمته. ولا يزال جريح معركة الأمس في مستشفى الحكومة وحالته ليست خطرة”.
كان الجيش البريطاني قد استطاع أسر عبد القادر الحسيني بعد جرحه في معركة “الخضر” التي استشهد فيها سعيد العاص، وسيق مكبلاً إلى المستشفى العسكري في القدس، لكن أفراداً من “الجهاد المقدس” ساعدوه في الافلات من الأسر، ونقلوه ليستكمل علاجه في دمشق. وبعد تصاعد أحداث الثورة المسلحة في فلسطين في أواخر سنة 1937، عاد عبد القادر الحسيني خفية ليشارك في القتال. وفي معركة كبرى وقعت في أكتوبر 1938، بين المجاهدين والقوات البريطانية في منطقة بني نعيم بين بيت لحم والخليل، أصيب عبد القادر إصابة خطيرة، فتمّ نقله سراً إلى مستشفى في الخليل حيث تلقى العلاج ثم اخفوه رفاقه لبضعة أشهر ريثما يشفى.
وفي منتصف العام 1939، قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية وبسبب الملاحقة والضغط العسكري المتواصل، اضطر عبد القادر الحسيني إلى اللجوء إلى لبنان ومنه إلى العراق، حيث التحق بدورة خاصة لضباط الاحتياط في بغداد ليتخرج فيها بعد ستة شهور برتبة ضابط. وبعد اندلاع الحرب العالمية، عمل عبد القادر في تدريس مادة الرياضيات في الكلية الحربية (معسكر الرشيد) وكذلك في مدرسة “التفيض” المتوسطة في بغداد.
في أبريل 1941، إثر اغتيال الملك غازي بن فيصل بسبب موقفه الوطني الرافض الاحتلال البريطاني، شارك عبد القادر الحسيني في ثورة الضباط العراقيين، بزعامة رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني، ضد القوات البريطانية. وبعد فشل تلك الثورة في يوليه من العام نفسه، اعتُقل عبد القادر ونُفي إلى بلدة زاخو على حدود تركيا. وبعد اغتيال فخري النشاشيبي في 9/11/1941، والذي جاء إلى بغداد لتهنئة رئيس الوزراء العراقي نوري باشا السعيد بمناسبة القضاء على ثورة الكيلاني، استدعى الأمن العراقي عبد القادرالحسيني من زاخو للتحقيق معه، وتم سجنه في معتقل “العمارة”، ولم تفرج الحكومة العراقية عنه سوى في أواخر سنة 1943، وذلك بوساطة الملك عبد العزيز بن سعود الذي كان على علاقة طيبة مع والده موسى كاظم، فلجأ عبد القادر إلى المملكة العربية السعودية وبقي يعمل هناك لمدة ثلاث سنوات، حتى بداية العام 1946.
في مايو 1946، كان الحاج أمين الحسيني مُعتقلا لدى السلطات الفرنسية في ضواحي باريس، ولكنه استطاع الهرب إلى مصر، واضعاً نفسه تحت تصرف الملك فاروق، الذي منحه اللجوء السياسي في مصر. ويشير تقرير سري للمخابرات الأمريكية (تم نشره مؤخراً) أنه “بينما كان أفراد المخابرات الفرنسية والبريطانية والأمريكية يراقبون الطائرات والتأشيرات خوفاً من مغادرة المفتي باريس سرّاً، استقل الأخير طائرة الخطوط الجوية العالمية(TWA) – في 29/5/1946 – مُتجهاً الى القاهرة. وكان قد حلق ذقنه وصبغ شعره وحمل جواز سفر سوري أعده له أحد أصدقائه في باريس هو معروف الدواليبي … الذي كان الملحق القانوني للوفد السوري في فرنسا، وهو وطني معروف بعروبته ومقرّب جداً من المفتي … أما السفير السوري الذي أصدر الجواز للمفتي فقد غادر باريس بسرعة وهدوء متجهاً الى جنيف بسويسرا… وعندما علم البريطانيون أن المفتي أصبح في القاهرة، طلبوا من الملك فاروق عدم نشر الخبر، ولكن الملك أجاب أن الخبر سينشر في صحف اليوم التالي” وهذا ما حصل… ويفيد التقرير الأمريكي أن “هذه الخطوة [استقبال المفتي من قبل الملك المصري] أعطت شعبية كبيرة لمصر لدى كافة الوطنيين المتشددين في الشرق الأوسط بأكمله وأدت الى تقوية مركز مصر في قيادة الجامعة العربية، حيث أن المفتي كان يمثّل الخطر الأكبر ضد الصهاينة.”
وما أن وصل الحاج أمين إلى القاهرة حتى أرسل في طلب عبد القادر، مستغلاً علاقاته القوية مع الملك إبن سعود والملك فاروق، فوصل عبد القادر إلى القاهرة في منتصف العام 1946 للعمل مع المفتي لإعادة ترتيب جيش “الجهاد المقدس” من جديد. وفي منتصف أغسطس 1946، طلبت الحكومة المصرية من عبد القادر الحسيني مغادرة الأراضي المصرية خلال أسبوع ، وذلك بسبب الضغط البريطاني من جهة وتخوفها من التحضير لعمل مسلح في فلسطين ينطلق من مصر. وقد سئل الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام (الذي كان من كبار القيادات الوطنية المصرية إلى حين تعيينه أميناً عاماً) عن رأيه في الموضوع، فقال إن الإذن بإقامة عبد القادر في مصر يتجدد كل ثلاثة أشهر، وإذا كان قد طُلب إليه مغادرة البلاد فلابد أن يكون ذلك تنفيذاً للإجراءات الإدارية المتّبعة. وقد احتج العديد من القيادات الفلسطينية على ذلك الطلب ببرقيات للملك فاروق ولرئيس الوزراء المصري مُطالبين “بإلغاء الإنذار”. وبسبب عدم وجود بلد يلتجأ له بسهولة (غير المملكة العربية السعودية)، قرر عبد القادر أن يتجاهل القرار المصري ويبقى في القاهرة “تاركاً للقوة أن تفعل ما تشاء”. وبعد أسبوع تلقى عبد القادر بلاغاً من السلطات المصرية المختصة أنه غير مرغم على مغادرة مصر وأنه حر في البقاء بالبلاد. وبالتأكيد، كان للحاج أمين دور في اقناع السلطات المصرية بعدم الترحيل.
بدأ عبد القادر باعادة ترتيب قوات الجهاد المقدس، ولكنه كان يعي أن جهات عربية رسمية تحاول منع الفلسطينيين من تحويل أنفسهم إلى قوة قتالية قادرة على حماية شعبها، وبأن من الأفضل الاتجاه إلى سوريا ومن ثم العودة إلى فلسطين (رغم المخاطر والصعوبات) لترتيب الأوضاع على الأرض. وهكذا كان في العام 1947…
تلك هي بدايات صعود عبد القادر الحسيني سلم التضحية والنضال، ووصوله إلى مرتبة الخلود في ذهن كل فلسطيني… ورغم أن قصة استشهاده في القسطل في الثامن من نيسان/أبريل 1948 قد احتلت موقعاً هاماً في الفولكلور الوطني الفلسطيني والعربي، التي صاحبتها عبارته الشهيرة للجنة العسكرية المنبثقة عن جامعة الدول العربية بأن “التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين، وإنني سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم”، ومعروفة للجميع، إلا أن تفاصيل ما دفعه لقول تلك العبارة سيحتاج إلى مقال آخر.