دي أمريكا يا صدام
المؤشر 23-11-2024
بقلم: عواد الجعفري
هناك مقولة يرددها بعض مستخدمي شبكات التواصل للدلالة على جبروت الولايات المتحدة وهي: “دي أمريكا يا صدام”، وينسبوها إلى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.
بصرف النظر عن حقيقة هذه العبارة من عدمها، إلا أنها تعكس إيمان كثيرين بقوة الولايات المتحدة التي لا رد لها.
وربما تكون هذه المقولة تطويراً لنظرية السادات الشهيرة القائلة إن “99 % من أوراق اللعب بأيدي أمريكا”. يقول الصحفي الفرنسي روبير سوليه في كتابه عن سيرة السادات إن الأخير “سحرته أمريكا” بعدما زارها.
الولايات المتحدة تأسست بالدم والنار، عندما أباد المستوطنون البيض الهنود الحمر، ولا جدال في ذلك. صعدت على المسرح الدولي في الحرب العالمية الثانية عندما ألقت قنبلتين ذريتين على اليابان عام 1945 وقتلت 220 ألف إنسان، معلنة الانتصار بعدها.
تقول دراسة عن التدخلات العسكرية الأمريكية إن الولايات المتحدة استخدمت القوة العسكرية خارج حدودها منذ عام 1798 إلى عام 1993، 234 مرة، وإذا أضفنا التدخلات العسكرية خلال ربع القرن الذي تلى ذلك يصبح الرقم 240 مرة تقريباً. رقم قياسي يفوق ما فعلته كل الإمبراطوريات على مر التاريخ.
وكانت الولايات المتحدة بحاجة إلى “حفلة” لكي تتوج نفسها قوة عظمى وحيدة في العالم، بعدما بات واضحاً أن الاتحاد السوفيتي على وشك السقوط، تماماً مثلما فعلت مع اليابان في الحرب الكونية، ولم تكن “حفلة” سوى حرب الخليج عام 1991.
كانت فرصة سهلة للأمريكيين بعد انتكاسات من فيتنام إلى لبنان. جيش تقليدي منتشر في مناطق مكشوفة، ودفاعات جوية ضعيفة أمام التفوق الجوي الأمريكي، والأهم قيادة سياسية تفتقر للحنكة التي يتحلى بها خصوم واشنطن اليوم.
اليوم، خصوم أمريكا أبعد ما يكونون عن نموذج صدام حسين، من إيران إلى روسيا ومن الصين إلى كوريا الشمالية.
بالطبع، نحن لسنا في مطلع القرن العشرين عندما كانت الصين شبه مستعمرة وشبه إقطاعية، ولا في الخمسينيات عندما كانت خارجة لتوها من حرب ضد الغزاة اليابانيين وحرب أخرى أهلية، كما أننا لسنا في التسعينيات عندما كانت روسيا تعيش فوضى عارمة وتتلقى مساعدات من أمريكا. اليوم هناك قوى تنادي بعالم متعدد الأقطاب وترفض الهيمنة الأمريكية، واتخذت خطوات عملية. مثال: مجموعة بريكس والمؤسسات المنبثقة عنها مثل بنك التنمية الجديد.
إن مجرد هذا الحديث عن تعدد الأقطاب وهذه الخطوات هو تقدم في هذا الاتجاه، فقبل عقود لم يكن هناك أي حديث سوى حديث “العم سام”.
يجب ألا يفهم من هذا الكلام الاعتقاد أن الولايات المتحدة ستنهار غدا أو تتراجع بعد غد. إن هذا الاعتقاد مبالغ فيه.
أحد أسباب قوة أمريكا في تعريف لخصه أحد الكتّاب: جار ضعيف في الشمال، وجار ضعيف في الجنوب، وفي الشرق أسماك وفي الغرب أسماك.
القصد أن الولايات المتحدة ليست محاطة بدول كثير تنغص عليها، وتجعل أمر تمددها عالميا عسيرا. لم تصب بلعنة الجغرافيا كما في دول آسيا وأوروبا.
أمريكا صاحبة أكبر اقتصاد في العالم وعملتها تتربع على عرش العملات، وهي صاحبة أكبر جيش وأكبر موازنة عسكرية، وفيها أفضل الجامعات وتسيطر على أهم المؤسسات الدولية، ولا تشكو من تهديد استراتيجي في الداخل أو الجوار. إلى جانب ذلك، الثقافة الأمريكية طاغية عبر العالم من هوليوود إلى الملابس إلى المطاعم. الحديث عن ملامح الإمبراطورية الأمريكية يلزمه مجلدات.
لكن التاريخ يخبرنا أنه عجلة تدور بلا هوادة وأن الدول التي كبرت وصارت إمبراطوريات هرمت وشاخت حتى تراجعت واندثرت، فالدول مثل الإنسان.
وقد تبقى الولايات المتحدة قوة عظمى لكن مع توجه مختلف، كأنه تدير ظهرها للآخرين وتنكفئ على نفسها، وربما تتراجع لكن ليس على النحو الحاد والسريع الذي وقع مع الاتحاد السوفيتي، وربما تدخل في حرب مع الصين تدفعها إلى الوراء، وربما تفكر أوروبا جديا في إنشاء الجيش القاري الذي يمثل رافعة لقطب جديد بعدما سرى الخوف بين قادتها من احتمال أن تتخلى عنهم أمريكا، وربما تكون هناك أقطاب متعددة في الشرق والغرب.
إن الرئيس الذي نقل أمريكا من إحدى القوتين العظميين إلى القوة العظمى الوحيدة كان محنكا. إنه جورج بوش الأب صاحب الخبرة السياسية الواسعة، إذ كان سفيرا لدى الصين والأمم المتحدة ومديرا لوكالة المخابرات المركزية وطيارا عسكريا ومشرعا ونائبا للرئيس.
اليوم، من يقود الولايات المتحدة؟ بايدن الطاعن في السن الذي لا يكف عن ارتكاب الهفوات وزلات اللسان ورجل أعمال سيحل مكانه عما قريب، يقول إنه “سيجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، علماً بأنه لم يستطع فعل ذلك في ولايته الأولى، والواقع الدولي بدأ يأخذ في التغير.
لم يستطع ترامب إنهاء البرنامج النووي الإيراني، ولا انتزاع تنازلات ذات معنى من كوريا الشمالية، ولم ينتصر في حربه التجارية مع الصين.
هاجم ترامب بشدة بايدن على خلفية الانسحاب من أفغانستان الذي قال إنه “الأسوأ” في التاريخ، ولو كان في الحكم لما حدث ما حدث، لكنه يغفل أنه نفسه أجرى مكالمة مع رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان عندما كان رئيساً، وذلك بعد توقيع اتفاق بين الطرفين يمهد لانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان.
إن الفوضى العارمة التي رافقت الانسحاب من أفغانستان أثارت تساؤلات عن القوى العظمى الوحيدة في العالم: أين هي ألمع العقول؟ (الولايات المتحدة يتخرج فيها أكبر عدد من طلبة العلوم السياسية في العالم؟)، أين هي مراكز الأبحاث السياسية والاستراتيجية؟ أيعقل أن أمريكا لم تستطع إخضاع طالبان بالقوة أو بالحيلة؟ لماذا لم يستطع الجيش الأمريكي حسم المعركة برغم امتلاكه كل شيء؟
إن الذين يرددون مقولة حسني مبارك الأولى، يغفلون مقولة أخرى منسوبة له، مناقضة تماماً للأولى، وهي: “المتغطي بالأمريكان عريان”، والبعض حاول التخفيف من قسوة اللفظ فقال “المتغطي بالأمريكان بردان”.
نعم، لقد تخلت الولايات المتحدة عن مبارك، رغم أنه كان حليفاً لها (هكذا كانت تسميه علناً). المصدر: كتاب “الأرض الموعودة” للرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما.
كتب أوباما عن الاحتجاجات في العالم العربي عام 2011، أن “أهم التطورات كانت تلك التي تجري في مصر، ووجدت الحكومة الأمريكية نفسها فجأة بين حليف متسلط ولكن موثوق، وشعب يصر على التغيير ويعبر عن التطلعات الديمقراطية”.
وكان الحل في البداية “محاولة إقناع مبارك بتبني سلسلة من الإصلاحات الجوهرية” بما يخفف من الاحتجاجات ويحافظ على مصالح الولايات المتحدة، لكن في نهاية المطاف كتب أوباما “قلت لفريقي: لنعد بياناً ندعو فيه مبارك إلى التنحي فوراً”، وهكذا كانت بداية النهاية.